شجرة لأنبياء

قال الله تعالى: {ووهبنا لِداودَ سُليمانَ نِعْمَ العبدُ إنَّهُ أوَّابٌ} [سورة ص].

 

نسبه عليه السلام

 

هو سليمان بن داود بن ايشا بن عويد بن عابر حتى ينتهي نسبه إلى يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وهو أحد أنبياء بني إسرائيل، وقد رزقه الله النبوة والملك وأعطاه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده فكان ملكه واسعًا وسلطانه عظيمًا.

 

عدد المرات التي ذكر فيها في القرءان الكريم

 

ذكر اسم سليمان عليه السلام في القرءان الكريم في ست عشرة ءاية وفي سبع سور، وقد ذكر الله تعالى في القرءان الكريم وفي ءايات كثيرة الكثير من النعم المترادفة عليه وعلى أبيه داود عليهما السلام يظهر فيها عظيم فضله تعالى عليهما.

 

وراثة سليمان داود في النبوة والملك

 

يقول الله تبارك وتعالى: {وَوَرثَ سُليمانُ داودَ وقالَ يا أيُّها الناسُ عُلِّمنا مَنْطِقَ الطَّيرِ وأوتينا مِن كُلِّ شيءٍ إنَّ هذا لهُوَ الفضلُ المُبين} [سورة النمل].

ومعنى قوله تعالى:{وورِثَ سُليمانُ داودَ} أي ورثه في المُلك والنبوة وليس المراد أنه ورثه في المال لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" أي أن الأنبياء لا تورث أموالهم عنهم كما يورث غيرهم بل تكون أموالهم صدقة من بعدهم.

 

صفته وذكاؤه وجودة رأيه في الحكم والقضاء

 

كان نبي الله سليمان عليه السلام أبيض جسيمًا، كثير الشعر، يلبس من الثياب البياض ورث الملك عليه السلام وكان عمره حينئذ اثنتي عشرة سنة وقد كان مع حداثة سنِّه من ذوي الفطانة والذكاء وحسن التدبير والسياسة، وقد منحه الله تبارك وتعالى منذ صباه الذكاء والحكمة وحسن القضاء، فقد كان أبوه في أيام ملكه يشاوره في أموره مع حداثة سنه لحكمته وفطانته. وقد ذكر القرءان الكريم طرفًا من ذلك النبوغ والذكاء الذي كان عند سليمان عليه السلام وذلك في قصة الحرث والزرع الذي نفشت فيه الغنم أي رعت فيه ليلاً، فاستفتى داود عليه السلام فأفتى فيها بوجه وأفتى فيها ابنه سليمان بوجه ءاخر، ووفق سليمان عليه السلام إلى الحكم الاقوم عليهما الصلاة والسلام.

قال الله تبارك وتعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ* فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [سورة الأنبياء].

وتفصيل هذه القصة أن زرعًا لقوم دخلت فيه غنمٌ لقوم ءاخرين ليلاً فأكلته وأفسدته، فجاء المتخاصمون إلى داود عليه السلام وكان عنده ابنه سليمان وقصوا عليه القصة، فحكم نبي الله داود بالغنم لصاحب الزرع عِوضًا عن حرثه الذي أتلفته الغنم ليلاً، فقال سليمان عليه السلام: أو غير ذلك؟ قال: ما هو؟ قال: "تدفعُ الغنمُ إلى أهل الحرث فينتفعون بألبانها وأولادها وأشعارها، وتدفعُ الحرث إلى أهل الغنم يقومون بإصلاحه حتى يعود كما كان، ثم يترادان بعد ذلك فيعود لأهل الغنم غنمهم ولأهل الحرث حرثهم" وكان ما أفتى به سليمان أقرب للصواب وأضمن للحق فقال داود عليه السلام: قد أصبت القضاء، ثم حكم بذلك.

ومما يدل أيضًا على حكمة وفطانة نبي الله سليمان عليه السلام وجودة رأيه في الحكم والقضاء ما جاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "بينما امرأتان معهما ابناهما إذ عدا الذئب فأخذ ابن إحداهما فتنازعتا في الآخر، فقالت الكبرى: إنما ذهب بابنك، وقالت الصغرى: بل إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود فحكم به للكبرى فخرجتا على سليمان فقال: ائتوني بسكين أشقه بينكما نصفين لكل واحدة منكما نصفه فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به لها" رواه البخاري ومسلم. ولما قال سيدنا سليمان عن الغلام: "أشقه" كان ذلك منه على وجه العرض والاستفهام وهو يعتقد أنها تقول "لا"، ويكفر من ظن أنه أمر بشقه نصفين.

 

سياسة سليمان عليه السلام وبناؤه لبيت المقدس

 

قام سليمان عليه السلام بعمارة بيت المقدس تنفيذًا لوصية أبيه داود عليه السلام بعد أربع سنين من توليه الملك وأنفق في ذلك أموالاً كثيرة وانتهى من بنائه بعد سبع سنين، وأقام السور حول مدينة القدس. وقد كان ءادم عليه السلام أول من بنى المسجد الأقصى بناه بعد أربعين سنة من بنائه المسجد الخرام كما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام.

روى النسائي وابن ماجه وأحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما بنى بيت المقدس سأل ربه عز وجل خلالاً ثلاثًا فأعطاه اثنين، ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة: سأله حُكمًا يُصادف حكمه فأعطاه إياه، وسأله مُلكًا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه، فنحن نرجو أن يكون الله قد أعطاه إياه".

ولما انتهى سليمان من تجديد بناء بيت المقدس، بنى الهيكل أي القصر الملكي وقد أتم بناءه في مدة ثلاث عشرة سنة، وكان لسيلمان عليه السلام اهتمام عظيم بالإصلاح والعمران وكان له أسطول بحري كبير له عناية كبيرة بالخيل يُروّضها ويُعدها للجهاد في سبيل الله في الحروب، وكانت لسليمان مجموعة كبيرة من النساء الحرائر والسراري حيث لم يكن في شريعته تحديد لعدد الزوجات، روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال سليمان بن داود: لأطوفنَّ الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لرزق في سبيل الله فرسانًا أجمعون" قال تعالى: {ولقد فَتَنَّا سليمانَ وألقَيْنا على كُرسيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أنابَ} [سورة ص]. ومن هذا الحديث يعلم أن أنبياء الله عندما يكثرون الزوجات تكون نيتهم خالصة لله لما فيه مصلحة الدعوة وأن يرزقوا ذرية صالحة تجاهد في سبيل الله، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم عدّد الزوجات لحكم عظيمة تعود لمصلحة الدعوة ونشر الإسلام ولم يكن نبي منهم متعلق القلب بالنساء.

 

نعم الله تعالى على سليمان عليه السلام

 

قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ* وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [سورة النمل].

أكرم الله عز وجل عبده ونبيه سليمان عليه السلام بنعم كثيرة وخصه بمزايا رائعة كانت عنوانًا للعظمة والمجد ومظهرًا من مظاهر المُلك العظيم والجاه الكبير والدرجة العالية عنه الله سبحانه، فقد فضّله الله تعالى بالنبوة والكتاب وتسخير الشياطين والجن والإنس، وأعطاه الله عز وجل علمًا بالقضاء وتسبيح الجبال.

وقد علمه الله تبارك وتعالى منطق الطير ولغته وسائر لغات الحيوانات فكان يفهم عنها ما لا يفهمه سائر الناس، وكان يتحدث معها أحيانًا كما كان الأمر مع الهدهد والنمل، قال الله عز وجل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} [سورة النمل] أي من كل شيء يجوز أن يؤتاه الأنبياء والناس، وقيل إن نبي الله سليمان عليه السلام أعطي ملك مشارق الارض ومغاربها.

وقد سخر الله تبارك وتعالى لنبيه سليمان عليه السلام الريح فكانت تنقله إلى أي أطراف الدنيا شاء، قال الله عز وجل: {فسَخَّرنا لهُ الريحَ تجري بأمرِهِ رُخاءً حيثُ أصابَ} [سورة ص]، وقال تعالى: {ولسُليمانَ الريحَ عاصفةً تجري بأمرِهِ إلى الأرضِ التي باركنا فيها وكُنَّا بكُلِّ شيءٍ عالمين} [سورة الأنبياء].

والمعنى أن الله تعالى سخر لعبده سليمان الريح عاصفة أي شديدة الهبوب، تجري بأمر سليمان فتسير به إلى حيث شاء ثم تعود به إلى منزله بالشام.

وقال الله تعالى: {ولسُليمانَ الريحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرواحها شهرٌ} [سورة سبإ] أي أنها تقطع به أول النهار مسيرة شهر، وبعد الظهر مسيرة شهر.

ويقال إنه كان لنبي الله سليمان عليه السلام بساط مركب من أخشاب بحيث أنه يسعُ جميع ما يحتاج إليه من الدُّور المبنية والقصور والخيام والامتعة والخيول والجمال والأثقال والرحال وغير ذلك من الحيوانات والطيور، فإذا أراد سفرًا أو قتال أعداء من أيّ بلاد الله شاء، حمل الأشياء كلها على هذا البساط وأمر الريحَ فدخلت تحته فرفعته وسارت به مُسرعة بإذن الله إلى أي مكان شاء بمشيئة الله تعالى وقدرته.

ومن نِعم الله تبارك وتعالى على سليمان عليه السلام أن سخّر له الجن ومَردة الشياطين يغُوصون له في البحار لاستخراج الجواهر واللآلئ ويعملون له الأعمال الصعبة التي يعجز عنها البشر، كبناء الصروح الضخمة والقصور العالية والقدور الضخمة العالية الثابتة والجفان التي تشبه الاحواض الكبيرة، يقول الله تبارك وتعالى في محكم تنزيله: {ومِنَ الجِنِّ مَن يعمَلُ بينَ يديهِ بإذنِ ربِّهِ ومَن يَزِغْ عَنْ أمرِنا نُذِقهُ مِنْ عذابِ السَّعير} أي وسخّر الله عز وجل له من الجن عُمالاً يعملون له ما يشاء لا يخرجون عن طاعته ومن خرج منهم عن امره وطاعته عذبه ونكل به.

ثم بيّن الله تعالى ما كانت تصنع الجن لنبيه سليمان عليه السلام فقال عز وجل: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سورة سبإ].

وقد جعل الله تعالى لنبيه سليمان عليه السلام سُلطة عالية على جميع الشياطين من الجن يسخر من يشاء منهم في الأعمال الشاقة، ويقيد من يشاء في الأغلال ليكف شرهم عن الناس، يقول الله عز وجل: {والشَّياطينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وغَوَّاصٍ* وءاخَرينَ مُقَرَّنينَ في الأصفاد} [سورة ص] أي الأغلال.

ومن نعم الله تعالى على سليمان عليه السلام أن أسال له عين القِطر وهو النحاس المُذاب، فكان النُحاسُ يتدفّق رقراقًا مُذابًا لسليمان عليه السلام كتدفق الماء العذب، فيصنع منه سليمان عليه السلام ما يشاء من غير نار وكانت تلك العين في بلاد اليمن، يقول الله تبارك وتعالى: {وأرسَلنا لهُ عينَ القِطرِ} [سورة سبإ].

ومن نعم الله تعالى على سليمان عليه السلام أن جُنْدهُ كان مؤلفًا من الجن والإنس والطير، وكان لسليمان عليه السلام قد نظّم لهم أعمالهم ورتب لهم شئونهم، فكان إذا خرج خرجوا معه في موكب حافل مهيب يُحيط به الجند والخدم من كل جانب، فالإنس والجن يسيرون معه سامعين مطيعين خاضعين، والطير بأنواعها تظله بأجنحتها من الحر وغيره، وعلى كل من هذه الجيوش نقباء ورؤساء يديرون وينظمون الفرق في عرض رائع وموكب مَلِكي حافل لم تر العين مثله، وهذا كله من فضل الله تعالى على عبده ونبيه سليمان عليه السلام الذي كان عبدًا مطيعًا أوّابًا داعيًا إلى عبادة الله وحده لا شريك له وكان من عباد الله الشاكرين، يقول الله تعالى: {ووهبنا لداودَ سليمانَ نِعْمَ العبدُ إنَّهُ أوَّابٌ} [سورة ص]، ويقول تعالى: {اعمَلوا ءالَ داودَ شُكرًا وقليلٌ مِنْ عباديَ الشَّكورُ} [سورة سبإ].

 

سليمان عليه السلام والنملة

 

يقول الله تبارك وتعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ* حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ* فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [سورة النمل].

يُخبرنا الله تبارك وتعالى عن عبده ونبيه سليمان عليه السلام أنه ركب يومًا في جيشه المؤلف من الجن والإنس والطير {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة النمل].

فهذه النملة تكلمت بصوت أمرت فيه أمة النمل في ذلك الوادي أن يدخلوا مساكنهم حذرًا من أن يحطمهم سليمان عليه السلام وجنوده أثناء سيرهم واعتذرت عن سليمان وجنوده بعدم الشعور، وقد ألهم الله عز وجل تلك النملة معرفة نبيه سليمان عليه السلام كما ألهم النمل كثيرًا من مصالحها، فمن ذلك أنها عندما تجد حبوبًا رطبة تحملها وتجففها في الهواء الطلق وتحت أشعة الشمس ثم تقوم بعد ذلك بتدخيرها في مساكنها تحت الأرض.

ومن ذلك أنها تكسر كل حبة تدخرها قطعتين لئلا تنبت، إلا الكزبرة فإنها تكسرها أربع قطع لئلا تنبت، لأن الكزبرة تنبت إذا كسرت قطعتين ولا تنبت إذا كسرت أربع قطع، فسًبحان من ألهمها هذا، وسبحان الخالق الحكيم.

والمقصود أنَّ سليمان عليه الصلاة والسلام سمع كلام النملة وفهم ما خاطبت به تلك النملة أمة النمل وما أمرت به وحذّرت، وتبسَّم من قولها على وجه الفرح والسرور بما أطلعه الله عز وجل عليه من كلام النملة دون غيره، ولهذا قال متضرعًا إلى خالقه: {ربِّ أوزِعني} أي ألهمني {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [سورة النمل] فطلب عليه الصلاة والسلام من ربه وخالقه أن يُقيضَه للشكر على ما أنعم به عليه وعلى والديه، وعلى ما خصه به من نعم دون غيره من الناس وأن يُيَسِّر له العمل الصالح، وأن يحشره إذا توفاه مع عباده الصالحين، وقد استجاب الله تعالى دعاء عبده سليمان بن داود عليهما السلام فكان من عباد الله الشاكرين مع ما أعطاه الله عز وجل من نعم كثيرة ومُلكًا لا ينبغي لأحد من بعده.

والمراد بوالديه داود عليه السلام وأمه، وكانت أمه من العابدات الصالحات تؤدي الواجبات وتجتنب المحرمات وتكثر من قيام الليل في طاعة الله عز وجل، وهي التي قالت لابنها سليمان عليه السلام: يا بُنَيّ لا تكثر النومَ بالليل فإن كثرة النوم بالليل تدع العبد فقيرًا يوم القيامة.

فائدة: روى الحاكم في المستدرك بالإسناد أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خرج نبيٌّ من الأنبياء فإذا هو بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء فقال: ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذه شأن النملة"، وقد رواه عبد الرزاق عن الزهري أن سليمان بن داود خرج هو وأصحابه يستقون فرأى نملة قائمة رافعة إحدى قوائمها تستقي فقال لأصحابه: ارجعوا فقد سقيتم، إن هذه النملة استسقت فاستجيب لها.

 

قصة سليمان عليه الصلاة والسلام مع بلقيس ملكة سبأ

 

قص الله تبارك وتعالى علينا في القرءان الكريم قصة نبيه سليمان عليه السلام مع "بلقيس" ملكة سبأ في اليمن، وهي قصة رائعة فيها حكم كثيرة وفيها مغزى دقيق للملوك والعظماء، وفيها بيان لسعة مًلك سليمان عليه الصلاة والسلام حيثُ امتد من بيت المقدس إلى أقاصي اليمن ودانت له الملوك والأمراء، وقد اتخذ نبي الله سليمان عليه السلام المُلك وسيلة للدعوة إلى دين الإسلام والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يترك ملكًا كافرًا ظالمًا إلا ودعاه إلى الدخول في دين الله الإسلام وعبادة الله تعالى وحده، فمن لم يستجب لدعوته كان السيف هو الحكم الفصل، وهكذا انتشر دين الله في أقطار المعمورة وعمّ أرجاء الدنيا.

وتبدأ قصة سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ عندما فصل سليمان عليه السلام عن وادي النمل حيث وقع سليمان مع جنوده في أرض جدباء لا ماء فيها فعطش الجيش فسألوه الماء، وكانت وظيفة الهدهد في جيشه أنهم كانوا إذا أعوزوا الماء واحتاجوا إليه في القفار والصحارى في حال الأسفار أن يجئ الهدهد فينظر لهم هل بهذه البقاع من ماء، وكان الهدهد يدله على الماء بما خلق الله تعالى له من القوة التي أودعها فيه حيث كان ينظر إلى الماء تحت تخوم الارض، وكان يرى الماء في الارض كما يرى الماء في الزجاجة بمشيئة الله تعالى، فكان الهدهد إذا دلّهم على الماء وقال: ههنا الماء، شقَّقت الشياطين الصخر وفجّرت العيون، واستنبطوه وأخرجوه واستعملوه لحاجتهم.

فعندما عطش جيش سليمان عليه السلام واحتاجوا إلى الماء تنفقّد الطير فلم يره بينهم ولم يجده، فأخذ يتهدده بالذبح أو التعذيب إلا إذا أتاه بعذر مقبول عن سبب تخلفه، يقول الله تبارك وتعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ* لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [سورة النمل].

ثم أقبل الهدهد إلى سليمان عليه السلام، فلما سأله عن غيبته أخبره بأنه اطلع على ما لم يطلع عليه، وأخبره بخبر يقين صادق وهو أنه كان في اليمن في بلدة سبأ وأنّ هناك ملكة على هذه البلاد تُدعى "بلقيس" قد ملكت على تلك الأمة في اليمن وأوتيت من كل شيء يُعطاه الملوك ويؤتاه الناس، ولها عرش عظيم مزخرفٌ بأنواع الزينة والجواهر مما يبهر العيون، ثم ذكر لسليمان عليه السلام كفرهم بالله تعالى وعبادتهم الشمس والسجود لها من دون الله وإضلال الشيطان لهم وصدهم عن عبادة الله تعالى، الذي يُخرج الخَبْءَ والمُستتر في السموات والأرض ويعلم ما يخفون وما يعلنون وهو رب العرش العظيم، قال الله تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ* إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ* وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ* أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ* اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [سورة النمل].

فعند ذلك بعث سليمان عليه السلام كتابًا ليوصله إلى هذه الملكة مختبرًا صدق الهدهد، وكان هذا الكتاب يتضمن دعوته لهم إلى طاعة الله ورسوله والخضوع لملكه وسلطانه قال تعالى: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ* اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [سورة النمل].

وحمل الهدهد كتاب سليمان عليه السلام وجاء إلى قصر بلقيس فألقاه إليها وهي على سرير عرشها ثم وقف ناحية ينتظر ما يكون من جوابها عن كتاب سليمان عليه السلام، وأخذت الملكة "بلقيس" الكتاب فقرأته ثم جمعت أمراءها ووزراءها وأكابر دولتها إلى مشورتها ثم قالت: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} ما أخبر الله به في هذه الآية {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ} [سورة النمل] أي أن الكتاب من عنده {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}. ثم شاورتهم في أمرها وما قد حلّ بها وخاطبتهم بمضمون هذه الآية {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [سورة النمل] تعني ما كنت لأبتّ أمرًا إلا وأنتم حاضرون، فأخذت رجال دولتها العزة بالإثم وثارت فيهم الحماسة للقتال و{قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي لنا قوة على القتال ثم قالوا لها بعد أن عرّضوا لها بالقتال {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [سورة النمل]، ففكرت بلقيس بالأمر مليًا وبروية ولم تتحمس كتحمسهم واندفاعهم وكان رأيها أتمّ وأسد من رأيهم، وعلمت أن صاحب هذا الكتاب قوي السلطان يغلب أعداءه ولا يخالف ولا يُخادع و{قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [سورة النمل] تعني أن هذا الملك لو غلب على هذه المملكة لم يخلص الامر من بينكم إلا إليّ ولم تكن الشدة والسطوة البليغة إلا عليّ.

ثم عرضت بلقيس على رجال دولتها ووزرائها رأيًا وجدته أقرب إلى حلّ تلك القضية المستجدّة، وهي أن ترسل إلى سليمان عليه السلام هدية تصانعه بها وتستنزل مودته بسببها وتُحمّل هذه الهدية لرجال دهاة من رجالها حتى ينظروا مدى قوة سليمان عليه السلام، ثم بعد ذلك تقرر ما ستفعله في أمر سليمان على ضوء ما يأتيها من أخبار عن سليمان عليه السلام وقوته، يقول الله تعالى إخبارًا عن بلقيس: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [سورة النمل].

وأرسلت "بلقيس" رجالها بهدية تحتوي على الحليّ والجواهر غالية الثمن، فلما جاؤا سليمان عليه السلام ووضعوا بين يديه هدية بلقيس لم يقبلها، وأظهر لهم أنه ليس بحاجة إلى هديتهم وأن الله سبحانه وتعالى أنعم عليه بنعم كثيرة تفوق بكثير ما أنعم عليهم، ثم توعدهم وملكتهم بأن يرسل إلى بلادهم بجنود لا قدرة لهم على قتالهم ويخرجهم من بلادهم أذلة صاغرين يقول الله تعالى: {فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ* ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [سورة النمل].

 

 عرش بلقيس عند سليمان وكرامة لأحد أتباعه المؤمنين

 

لما رجعت رُسل بلقيس إليها أخبروا ملكتهم بخبر سليمان عليه السلام، ووصفوا لها ما شاهدوه من عظمة مُلك سليمان عليه السلام وكثرة جنده وقوة بأسه، وأخبروها بأنه رد الهدايا إليها ولم يرض المصانعة، وأنه مصمم على غزو بلادهم بجيش كبير عرمرم لا قدرة لهم عليه، ولما سمعت الملكة "بلقيس" أخبار رسلها عن سليمان عليه السلام وعظيم ملكه أيقنت بعظم سلطانه ومهابته وعدم طاقتها على مقاومته، فبعثت إليه: إني قادمة إليك لانظر ما تدعو إليه، ثم أمرت بعرشها فجعل وراء سبعة أبواب، ووكلت به حرسًا يحفظونه وسارت إلى سليمان عليه السلام بجيش كبير مع رجالها وجماعتها.

وكان نبي الله سليمان عليه السلام عظيم الهيبة كثيرًا ما كان الناس لا يبدأونه بشيء حتى يسأل هو عنه فجلس يومًا على سرير ملكه فرأى رهجًا قريبًا منه فقال: ما هذا؟ فقالوا: "بلقيس" قد نزلت بهذا المكان وكان قدر فرسخ، وكان قد بلغه أن بلقيس عملت هلى حراسة عرشها قبل خروجها، فلما علم سليمان عليه السلام بقدومها إليه، شيّد لها قصرًا عظيمًا من زجاج وجعل في ممره ماء وجعل عليه سقفًا من زجاج، وجعل فيه السمك وغيره من دواب الماء بحيث يخيل للناظر أنه في لجة من الماء.

وأراد سليمان عليه السلام أن يظهر لبلقيس من دلائل عظمته وسلطانه ما يبهرها وأن ترى بعينها ما لم تره من قبل قط، وهو أن ياتي بعرشها إلى قصره ليكون جلوسها عليه في ذلك الصرح العظيم دليلاً باهرًا على نبوته لأنها خلفته في قصرها واحتاطت عليه، فأمر عليه السلام جنوده وخواصه أن يخبروه عن مخلوق قوي ليأتيه بعرش بلقيس، فتطوع عفريت قوي من الجن وأخبره أنه قادر على إحضار عرش بلقيس في مدة قصيرة لا تتجاوز نصف نهار، يقول الله تبارك وتعالى إخبارًا عن سليمان عليه السلام: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ* قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} [سورة النمل] أي مجلسك، وكان سليمان عليه السلام يجلس للقضاء بين الناس من وقت الفجر إلى نصف النهار، ثم قال له: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [سورة النمل] أي وإني لذو قدرة على إحضاره إليك وذو أمانة على ما فيه من الجواهر النفيسة.

وكان هناك عند سليمان عليه السلام رجل من أهل الإيمان مشهور بالتقوى والولاية أعطاه الله معرفة اسمه الأعظم ويدعى ءاصف بن برخيا ويقال إنه ابن خالة سليمان فقال لسليمان عليه السلام ما أخبر الله تعالى بقوله: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [سورة النمل] أي قبل أن يرجع إليك بصرك إذا نظرت به إلى أبعد غاية منك ثم أغمضته، وكان الأمر كما قال وإذا بعرش بلقيس بعظمته وحليّه قائم وحاضر في القصر أمام نبي الله سليمان عليه السلام، فلما رأى سليمان عليه السلام عرش بلقيس عنده في هذه المدة القريبة قال ما أخبر الله به عنه في هذه الآية في قوله: {قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [سورة النمل] أي هذا من فضل الله علي وفضله على عبيده ليختبرهم على الشكر أو خلافه {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [سورة النمل] أي يعود نفع ذلك عليه {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [سورة النمل] أي ترك الشكر.

ثم أمر نبي الله سليمان عليه السلام أن يغير بعض معالم العرش ليمتحن بها قوة ملاحظتها وانتباهها وليختبر فهمها وعقلها، قال الله تعالى: {قالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ* فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [سورة النمل] وهذا من فطانتها وغزارة فهمها لأنها استبعدت أن يكون عرشها لأنها خلفته وراءها بأرض اليمن تحت حراسة شديدة، ولم تكن تعلم أن أحدًا يقدر على هذا الصنع العجيب الغريب، قال الله تعالى إخبارًا عن سليمان عليه السلام: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ* وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} [سورة النمل] ولمعنى صدها عن عبادة الله تعالى وحده عبادتها للشمس والقمر اتباعًا لدين ءابائها لأنها نشأت ولم تعرف إلا قومًا كافرين يعبدون الشمس من دون الله تعالى.

وكان سليمان عليه السلام قد أمرها بدخول القصر وكان جالسًا على سرير عرشه، قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ} [سورة النمل].

فلما رأت الدلائل الباهرة والخوارق العجيبة أعلنت إسلامها وتبرأت مما كانت عليه من كفر وضلال، يقول الله تعالى حكاية عن بلقيس: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة النمل].

وبعد أن أسلمت بلقيس ودخلت تحت سلطان سليمان عليه السلام يقال إنه تزوجها وأقرها على مملكة اليمن وردّها إلى بلدها وكان يزورها في مملكتها في كل شهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام وأمر الجن المسخرين له أن يبنوا له ثلاثة قصور هناك. والله أعلم.

 

قصة سليمان والجياد

 

قال الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ* إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ* فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ* رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [سورة ص].

يُذكر أن سليمان عليه السلام عرضت عليه الجياد بالعشي فاشتغل بعرض تلك الخيول حتى خرج وقت العصر وغربت الشمس، قيل إنه بعد ذلك طلب ردها إليه ومسح عراقيبها وأعناقها بالسيف، وقيل غير ذلك، والله أعلم.

 

وفاة نبي الله سليمان عليه السلام وكم كانت مدة ملكه وحياته

 

يقول الله تبارك وتعالى في كيفية موت سليمان عليه السلام: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سورة سبأ].

يذكر الله تبارك وتعالى كيفية موت نبيه سليمان عليه السلام وكيف أخفى الله تعالى موته على الجان المسخرين له في الاعمال الشاقة لأن الجن كانوا يقولون للناس: إننا نعلم الغيب فأراد إظهار كذبهم فقُبض سليمان وهو متوكئ على عصاه وظل ميتًا على عصاه سنة كاملة، فلما أكلت دابة الأرض وهي الأرضة – وهي دويبة صغيرة تأكل الخشب- عصاه خرّ وسقط إلى الأرض وعُلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة، وتبيّنت الجن والإنس أيضًا أن الجن لا يعلمون الغيب كما كانوا يتوهمون ويُوهمون الناس.

وروى الحافظ ابن عساكر بالإسناد عن ابن عباس موقوفًا أن سليمان نبي الله عليه السلام كان إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها: ما اسمك؟ فتقول: كذا، فيقول: لأي شيء أنت؟ فإذا كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء أنبتت، فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخونوب، قال: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت، فقال سليمان: اللهم أخف عن الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فنحتها عصًا فتوكأ عليها حولاً والجن تعمل فأكلتها الأرضة فتبيّنت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولاً في العذاب المهين، ويقال إن الشياطين ينقلون إلى الأرضة الماء والطين حيث كانت.

ويقال إنه كان عمر نبي الله سليمان عليه السلام حين توفاه الله اثنتين وخمسين سنة، ولبث عليه الصلاة والسلام في الملك أربعين سنة ودفن في بيت المقدس في فلسطين.

 فائدة: كان لسيدنا سليمان عليه السلام ثلاثمائة زوجة من الحرائر وسبعمائة أمة مملوكة ومع ذلك لم يكن قلبه متعلقًا بالنساء ولم يكن همه إشباع الشهوة بكثرة التلذذ بالنساء وإنما كان غرضه أن يخرج من ظهره ذرية يقاتلون الكفار. والجهاد لم يبدأ بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بل أيام الانبياء كان الجهاد، فإن إبراهيم قاتل كفارًا كانوا ءاذوا لوطًا عليه السلام.

ومن نعم الله على سليمان أنه كان يوجد في مجلس حكمه ستمائة ألف كرسي ثلاثمائة ألف عن يمينه لكبراء الإنس وثلاثمائة ألف عن يساره لكبراء الجن، وقد كانت العفاريت الذين كانوا يستطيعون أن ينقلوا الصخرة الكبيرة من مكان إلى مكان بعيد يطيعونه ويخافون أن ينزل الله عليهم عذابًا في الدنيا إن لم يطيعوا سليمان عليه السلام.

 

قال الله تبارك وتعالى: {واذكُر عبدَنا داودَ ذا الأيدِ إنَّهُ أوَّاب} [سورة ص]، وقال الله تعالى: {ولقد فضَّلنا بعضَ النَّبِيِّنَ على بعضٍ وءاتينا داودَ زبورًا} [سورة الإسراء].

 

عدد المرات التي ذُكر فيها داود عليه السلام في القرءان

 

داود عليه الصلاة والسلام هو من الأنبياء والرسل الكرام، وقد ءاتاه الله تعالى النبوة والمُلك وجعله رسولاً إلى بني إسرائيل، وقد ورد اسمُ داود عليه الصلاة والسلام في القرءان الكريم في ستة عشر موضعًا.

 

نسبه عليه الصلاة والسلام

 

هو داود بن ايشا بن عويد بن عابر، إلى أن ينتهي النسب إلى يهوذا بن بعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وقد جمع الله تبارك وتعالى له بين النبوة والمُلك وأنزل عليه الزبور.

 

مقدمة في بدء أمر داود، ومكانته بين بني إسرائيل وبيان قوة

جهاده في سبيل الله

 

بعد وفاة هارون وموسى عليهما السلام تولى أمر بني إسرائيل نبيٌّ من أنبيائهم يُدعى يوشع بن نون عليه السلام، فدخل بهم بلاد فلسطين التي كانوا قد وُعدوا بها على لسان موسى عليه السلام في التوراة، وقام بأمره عليه الصلاة والسلام إلى وفاته، ولما توفي تولى أمرهم قضاة منهم وبقوا على ذلك مدة طويلة من الزمن، وفي هذه الفترة دَبَّ إلى بني إسرائيل الوَهَن والضعف وفشت فيهم المعاصي والمنكرات، ودخلت الوثنية وعبادة الأوثان والاصنام في صفوفهم فسلّط الله تعالى عليهم الأمم القريبة منهم، فغزاهم العمالقة والآراميون والفلسطينيون وغيرهم، وكانوا إلى الخذلان أقرب منهم إلى النصر في كثير من حروبهم مع أعدائهم، وكان بنو إسرائيل قد قتلوا كثيرًا من الأنبياء فسلط الله عليهم ملوكًا جبارين يسفكون دماءهم وسلط عليهم الاعداء من غيرهم، وكانوا إذا قاتلوا أحدًا من الأعداء يكون معهم "تابوت الميثاق" وفيه ألواح موسى وعصاه وهو ما أشارت إليه الآية الكرمة: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [سورة البقرة].

وقد كان بنو إسرائيل يُنصرون ببركته ولوجود التوراة بينهم منذ قديم الزمان وكان ذلك موروثًا لخلفهم عن سلفهم، فلم يزل بهم تماديهم على الضلال والفساد حتى إذا كانوا في بعض حروبهم مع أهل غزة وعسقلان غلبهم هؤلاء الأعداء على أخذ التابوت فانتزعوه من بين أيديهم وأُخِذت التوراة من أيديهم ولم يبقَ من يحفظها فيهم إلا القليل، وفي هذه الحروب ماتَ ملكهم الذي كان يقودهم كمدًا وبقي بنو إسرائيل كالغنم بلا راع، حتى هيأ الله تبارك وتعالى لهم غلامًا يقال له "شمويل" نشأ فيهم وتولاه الله بعنايته وأنبته نباتًا حسنًا، ثم جعله الله نبيًا وأوحى إليه وبعثه إلى بني إسرائيل، وأمره بالدعوة إلى دينه الإسلام وتوحيده تعالى وترك عبادة الأصنام، فلما دعا قومه بني إسرائيل إلى دين الله طلبوا منه أن يُقيم عليهم ملكًا يُقاتلون معه أعداءهم لأنّ ملكهم كان قد هلك وباد فيهم، فكان من أمرهم ما قصّ الله تعالى علينا في القرءان يقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا} [سورة البقرة] أي وقد أخذت منا البلاد وسُبيت الأولاد، قال الله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [سورة البقرة] أي ما وفَوا بما وعدوا بل نكلوا عن الجهاد إلا القليل منهم والله عليم بهم.

وأوحى الله تعالى إلى نبيه يقال إنه شمويل – والله أعلم- أن يجعل عليهم "طالوت" مَلِكًا وكان رجلاً من أجنادهم ولم يكن من بيت المُلك فيهم، فملَّكه الله تعالى عليهم لقوته الجسمية والعلمية، ولكن بني إسرائيل تمردوا على توليه المُلك وقالوا لنبيهم: {قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَال} [سورة البقرة] أي مع هذا هو فقير لا مال له يقومُ بالملك، وقد ذكر بعضهم أنه كان سقاءً، فأجابهم نبيهم قائلاً: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة] أي اختاره لكم من بينكم والله أعلم به منكم وهو مع هذا قد وهبه الله وزاده بالعلم والجسم، فهو أشد قوة وصبرًا في الحرب ومعرفة بها، أي هو أتم علمًا وقوة في الجسم وقامة منكم.

وأصبح "طالوت" مَلكًا على بني إسرائيل وأيّده الله تعالى على المُلك بعودة التابوت الذي فيه ألواح موسى وعصاه إليهم وكان قد نزع منهم على يد أعدائهم وكان هذا علامة على بركة مُلك "طالوت" عليهم، يقول تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ} [سورة البقرة].

واختار مَلكهم "طالوت" الجنود الأقوياء الاشداء وخرج بهم لقتال عدوهم، وفي الطريق اشتد بهم الظمأ في رحلة برية طويلة وشاقة وكانوا ثمانين ألفًا، ومروا في طريقهم بنهر قيل بين الأردن وفلسطين، فأراد ملكهم أن يختبرهم فأمرهم ألا يشربوا منه إلا من أخذ جرعة من الماء ليبل بها ظمأه، وكان ذلك اختبارًا وامتحانًا من "طالوت" لجنوده في قوة بأسهم وإرادتهم، قال الله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً} [سورة البقرة].

ولم يبق مع طالوت عليه السلام إلا عدد قُدِّر بثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً على عدد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه في غزوة "بدر الكبرى"، وتابع بهم ملكهم "طالوت" لقتال أعدائهم الكافرين المشركين، وأما بقية الجنود الثمانين ألفًا فقد رجعوا حيث إن إرادتهم كانت ضعيفة خَوّارة، فلذلك لم يصحبهم طالوت معه لقتال خصومه المشركين والذين كان على رأسهم الملك "جالوت" الذي كان جبارًا طاغيًا يهابه الناس من بني إسرائيل.

ولما جاوز طالوت عليه السلام والمؤمنون الذين بقوا معه النهر استقل أصحابه هؤلاء أنفسهم عن لقاء عدوهم لكثرتهم ولجبروت ملكهم إلا قليلاً منهم ممن ثبّت الله تعالى قلوبهم وقوّى عزيمتهم، وكان فيهم العلماء العاملون، لذلك أخذوا يثبتون إخوانهم المؤمنين ويقوون عزائمهم ويذكرونهم بنصر الله وأن النصر من عند الله ينصر من يشاء من عباده، يقول الله تعالى إخبارًا عن هذين الفريقين الذينَ جاوز بهم طالوت النهر لقتال الكافرين: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة البقرة].

ولمّا تقدم طالوت ومن معه من المؤمنين من بني إسرائيل إلى جالوت ومن معه من المشركين وتصافوا للقتال، طلب ملكهم جالوت قبل بدء المعركة المبارزة فتقدم إليه فتى شجاع يُسمى داود وهو من سبط يهوذا بن يعقوب وكان هو وأبوه "إيش" في جيش طالوت.

فلما أقبل داود على جالوت احتقره جالوت وازدراه وقال له: "ارجع فإني أكره قتلك" فما كان من داود إلا أن قال له بكل شجاعة وجُرأة: ولكني أحبُّ قتلك، ثم حصلت مبارزة بين "جالوت" الطاغية وبين داود عليه السلام، فقتل داودُ جالوتَ شرّ قتلة ثم التحم القتال، وانهزم جيش جالوت من المشركين شر هزيمة، يقول الله تبارك وتعالى إخبارًا عن ذلك: {وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ* فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء} [سورة البقرة].

وكان طالوت عليه السلام قد وعد داود إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشاطره نعمته ويشركه في أمره، فوفى له وعده. ثم ءال الملك إلى داود عليه السلام مع ما منحه الله تعالى من النبوة العظيمة والعلم الوافر، ومنذ ذلك الحين لمع اسم داود بين شعب بني إسرائيل وتتابعت الانتصارات على يديه، وأعز الله تعالى بني إسرائيل بعد أن كانوا في ذل وهوان، وكان بنو إسرائيل قد اجتمعوا بعد وفاة ملكهم طالوت على مبايعة داود عليه السلام على المُلك فأصبح ملكهم وكان عمره لا يزيد على ثلاثين سنة وقد حكم شعبه بالعدل، وطبّق عليهم أحكام شريعة التوراة.

 

دعوته عليه الصلاة والسلام

 

بلغ داود عليه الصلاة والسلام من العمر أربعين سنة فآتاه الله تعالى النبوة مع الملك وجعله رسولاً إلى بني إسرائيل، فدعا داود عليه الصلاة والسلام قومه بني إسرائيل إلى تطبيق الشريعة التي أنزلت عليه وهي شريعة التوراة المبنية على الإسلام، والإيمان بأنه رب هذا العالم كله وأنه الذي خلقه وأبدعه وأنه لا أحد يستحق العبادة إلا الله تعالى وحده، وأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه داود عليه الصلاة والسلام الزبور وفيه مواعظ وعِبر ورقائق وأذكار، وءاتاه الحكمة وفصل الخطاب يقول الله تبارك وتعالى: {ولقد فضَّلنا بعضَ النَّبيِّنَ على بعضٍ وءاتينا داودَ زبورًا} [سورة الإسراء]، وقال تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء} [سورة البقرة].

 

ما جاء في فضائل داود عليه الصلاة والسلام وشمائله ودلائل نبوته

وكثرة عبادته لله تعالى

 

أعطى الله تبارك وتعالى عبده داود عليه الصلاة والسلام فضلاً كبيرًا وحَباه من لدنه خيرًا عظيمًا، فقد كان داود عليه الصلاة والسلام حسن الصوت وكان عندما يصدح بصوته الجميل فيسبّح الله تعالى ويحمُده نسبح معه الجبال والطير يقول الله تعالى: {ولقد ءاتيْنا داودَ مِنَّا فضلاً يا جبالُ أَوِّبي معهُ والطَّيرُ وأَلَنَّا لهُ الحديدَ} [سورة سبأ]، ويقول تعالى: {وسَخَّرنا معَ داودَ الجِبالَ يُسَبِّحنَ والطيرَ وكُنَّا فاعلين} [سورة الأنبياء] وكان داود عليه الصلاة والسلام إذا قرأ الزبور وما فيه من رقائق وأّكار تكف الطيرُ عن الطيران وتقف على الأغصان والاشجار لتسمع صوته النديّ العذب وتسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه، وكذلك الجبال تُردد معه في العشي والإبكار تجيبُه وتسبح الله معه كلما سبح بكرة وعشيا وتعكف الجن والإنس والطير والدواب على صوته، يقول الله عز وجل: {إنَّا سخَّرنا الجبالَ معهُ يُسَبِّحنَ بالعِشيِّ والإشراق* والطيرَ مَحْشورةً كلٌّ بهُ أوَّابٌ} [سورة ص]، وكان مع ذلك الصوت الرخيم سريع القراءة مع التدبر والتخشع فكان صلوات الله وسلامه عليه يأمر أن تسرج دابته فيقرأ الزبور كلَّه قبل أن تسرج، روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثال: "خُفف على داود – عليه السلام- القرءان فكان يأمر بدوابه فتسرج فيقرأ القرءان قبل أن تُسرج دوابه، ولا يأكل إلا من عمل يده".

والمراد بالقرءان في هذا الحديث الزبور الذي أنزله الله تعالى عليه وأوحاه إليه. ولقد ورد أن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم وقف يومًا يستمع إلى صوت الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري وكان يقرأ القرءان بصوته العذب الحنون، فقال عليه الصلاة والسلام: "لقد أعطيت مزمارًا من مزامير ءال داود"، فقال يا رسول الله أكنت تستمع لقراءتي، قال: "نعم"، فقال: لو علمتُ أنك تستمع لحبرته لك تحبيرًا، أي لجملته تجميلاً.

تنبيه معنى مزمار داود صوته الجميل الذي كان يقرأ به التوراة، وليس المزمار المعروف المحرّم.

 

وكان نبي الله داود عليه الصلاة والسلام مع هذه العظمة والمُلك والجاه الذي تفضل الله به عليه كثير العبادة لله سبحانه وتعالى ليلاً ونهارًا، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه يقوم الليل ويصوم في النهار ويقضي جزءًا كبيرًا من يومه في عبادة الله عز وجل، يقول الله تبارك وتعالى: {واذكُر عبدَنا داودَ ذا الأيدِ إنَّهُ أوَّابٌ} [سورة ص] ومعنى "ذا الأيد" أي ذا القوة في العبادة والعمل الصالح، فكان داود عليه السلام ذا قوة عالية في عبادة الله وطاعته عمل الصالحات إنه أوّاب مطيع لله. وقد ثبت في الصحيحين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أحبُّ الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحبُّ الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى".

ومما أنعم الله تبارك وتعالى على داود عليه الصلاة والسلام أن علَّمه منطق الطير وألان له الحديد فكان بين يديه بإذن الله كالعجين، حتى كان يفتله بيده ولا يحتاج إلى نار ولا مطرقة فكان يصنع منها الدروع ليحصّن بها جنوده من الأعداء ولدرء خطر الحرب والمعارك.

قال الله تبارك وتعالى: {وألَنَّا لهُ الحديدَ* أنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وقَدِّرْ في السِّردِ} [سورة سبإ]، ويقول الله تعالى: {وعلَّمناهُ صَنْعةَ لبوسٍ لكم لِتُحْصِنَكُم من بأسِكُم فهلْ أنتُم شاكرون} [سورة الأنبياء]، ومن فضل الله تبارك وتعالى على عبده داود أن قوّى مُلكه وجعله منصورًا على أعدائه مُهابًا في قومه قال الله تعالى: {وشَدَدْنا مُلكهُ وءاتيناهُ الحِكمةَ وفَضْلَ الخِطابِ} [سورة ص]، وقيل: معنى الحكمة أي النبوة، وأما فصل الخطاب فقد قيل: هو إصابة القضاء وفهم ذلك، وقيل: هو الفصل في الكلام وفي الحكم، وقيل: هو قوله في الخطاب، أما بعد.

 

قصة الخصمين مع داود عليه السلام ورد الفرية العظيمة

على داود في هذه القصة

 

قال الله تبارك وتعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ* إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ* قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [سورة ص].

ليعلم أن بعض المفسرين أورد في تفسير هذه الآيات في قصة الخصمين مع نبي الله داود عليه السلام قصصًا إسرائيليات لا تليق بني الله داود الذي خصه الله تعالى بنبوته وأكرمه برسالته، لأنّ الأنبياء جميعهم تجب لهم العصمة من الكفر والرذائل وكبائر الذنوب وصغائر الخسة كما تقدم، لذلك لا يجوز الاعتماد على مثل هذه القصص المنسوبة للأنبياء ولا يجوز اعتقادها لأنها تنافي العصمة الواجبة لهم، لذلك ينبغي الاقتصار في فهم قصة الخصمين مع داود عليه السلام على ظاهر ما أوردها الله تعالى في القرءان، فقد جاء في تفسيرها أن ذينك الخصمين كانا في الحقيقة من البشر من بني ءادم بلا شك وأنهما كانا مشتركين في نعاج من الغنم على الحقيقة، وأنه بغى أحدهما على الآخر وظلمه على ما نصّت الآية، وقد تسور هذان الخصمان محراب داود عليه السلام وهو أشرف مكان في داره، وكان داود عليه السلام مستغرقًا في عبادة ربه في ذلك المحراب فلم يشعر داود عليه الصلاة والسلام بالشخصين إلا وهما أمامه فلما قال لهما: من أدخلكما عليّ، طمأناه وقالا له: لا تخف، ثم سألاه أن يحكم في شأنهما وقضيتهما إلى ءاخر القصة التي نص الله تعالى عليها في القرءان.

وقد امتحن الله تعالى نبيه داود عليه السلام في هذه الحادثة التي جرت معه مع هذين الخصمين، وأما استغفاره عليه الصلاة والسلام فلأجل الذنب الصغير الذي وقع فيه وهو أنه تعجل بالحكم على الخصم الآخر قبل التثبيت في الدعوى، وكان يجب عليه لما سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عما عنده فيها ولا يقضي عليه بالحكم قبل سؤاله، وقد تاب داود عليه السلام من ذلك الذن الذي ليس فيه خسة ولا دناءة وغفر الله تعالى له هذا الذنب بنص القرءان الكريم قال الله تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [سورة ص].

ومن القصص المفتراة على نبي الله داود عليه السلام زورًا وبهتانًا وهي من الاسرائيليات المدسوسة على الأنبياء أن داود عليه الصلاة والسلام كان يومًا في محرابه إذ وقعت عليه حمامة من ذهب، فأراد أن يأخذها فطارت فذهب ليأخذها فرأى امرأة تغتسل فوقع في حبها وعشقها وأعجب بها وأغرم، وكانت زوجة أحد قواده ويُسمى "أوريا" فأراد أن يتخلص منه ليتزوج بها فأرسله في أحد الحروب وحمّله الراية وأمره بالتقدم وكان قد أوعز إلى جنوده أن يتأخروا عنه إذا تقدم نحو الاعداء حتى قُتل ذلك القائد وبهذه الوسيلة – كما تقول هذه القصة المفتراة- قتل القائد "أوريا" وتزوج داود عليه السلام زوجته من بعده، ويزيد بعضهم فيقول: إن داود زنى بهذه المرأة قبل تدبير هذه المكيدة {كَبُرَتْ كلمةً تخرُجُ مِن أفواهِهِم إن يقُولون إلا كذبًا} [سورة الكهف].

وقد قال العلماء المعتبرون: إن هذه الروايات لا تصح لا من طريق النقل ولا تجوز من حيث المعنى لأن الأنبياء منزهون عن مثل هذه الامور كلها، وقالوا: لا يُلتفت إلى ما سطّره بعض المفسرين والقصصيين عن أهل الكتاب الذين بدّلوا وغيّروا ولم يكن اعتقادهم بداود عليه الصلاة والسلامأنه رسول الله بل مَلِك من الملوك، وهذا الذي حكاه بعض المفسرين عن سيدنا "داود" وهو أنه عشق امرأة "أوريا" فاحتال حتى قتل زوجها فتزوجها لا يليق بالأنبياء بل لو وصف به أفسق الملوك لكان مُنكرًا، وفي السورة التي ذكرت فيها هذه القصة من أولها إلى ءاخرها فيها محاجة منكري النبوة، فكيف يلائمها القدح في بعض أكابر الأنبياء بهذا الفسق القبيح، وقد وصف الله تبارك وتعالى سيدنا داود في هذه الآية بمحامد كثيرة منها قوله تعالى: {ذا الأيدِ} أي القوة ولا شك أن المراد منه القوة في الدين والعبادة لأن القوة في غير الدين كانت موجودة في الملوك الكفار وما استحقوا بها مدحًا، والقوة في الدين لا معنى لها إلا في القوة والعزم الشديد على أداء الواجبات واجتناب المحرمات، وما روى بعض المفسرين في تفسيرهم أن الخصمين اللذين اختصما إلى داود عليه السلام كَنيا بالنعاج عن المرأة تنبيهًا إلى قصته على زعمهم مع "أوريا" فغير صحيح، والصحيح أنهما خصمان في نتاج غنم على ظاهر الآية في القرءان.

وقد تكنى العرب عن النساء بالنعاج، لكن لا يجوز تفسير النعاج في قصة داود عليه السلام مع الخصمين المذكورة في القرءان بالنساء كما فعل هؤلاء المفسرون فقد أساءا بتفسيرهم هذا لأن ما ذكروه لا يليق بنبي الله داود عليه الصلاة والسلام، يقول الحافظ تقي الدين السبكي العالم الجليل: النعجة في الآية هي النعجة الحقيقية، والخصمان من البشر. فافهم ذلك أخي المسلم رحمك الله بتوفيقه.

فائدة: في تفسير قول الله تبارك وتعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [سورة ص].

هذا خطابٌ من الله تبارك وتعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام، وفيه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور وحكام الناس أن يحكموا بين الناس بالحق والعدل واتباع الحق المنزل من عنده تبارك وتعالى لا ما سواه من الآراء والاهواء، وتوعّد الله سبحانه وتعالى في هذه الآية من سلك غير ذلك وحكم بغير ذلك وضل عن سبيل الله بأنَّ لهم العذاب الشديد يوم القيامة، وقد كان نبي الله داود عليه الصلاة والسلام هو المقتدى به في ذلك الزمان في العدل وكثرة العبادة وأنواع القربات، قال الله تعالى: {اعمَلوا ءال داودَ شُكرًا وقليلٌ مِن عباديَ الشَّكور} [سورة سبإ].

 

من حكم نبي الله داود عليه الصلاة والسلام

 

كان لنبي الله داود عليه الصلاة والسلام حكمٌ عظيمة فيها المعاني العظيمة ومنها:

قال عبد الله بن المبارك في كتاب "الزهد" بالإسناد عن وهب بن منبه قال: "إنّ من حكمة ءال داود: حقّ على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يُحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويَصْدُقونه عن نفسه، وساعة يُخلي بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويُجمل، فإن هذه الساعة عونٌ على هذه الساعات وإحجام للقلوب" وقال: "حق على العاقل أن يعرف زمانه ويحفظ لسانه ويقبل على شأنه".

وقد كان نبي الله داود صلى الله عليه وسلم مع ما ءاتاه الله تبارك وتعالى من المُلك والنعم الكثيرة يأكل من كسب يده، ويقوم الليل والنهار في طاعة الله سبحانه وتعالى، وقد ثبت في الحديث: "انَّ أطيب ما أكل الرجل من كسبه وأن نبي الله داود كان يأكل من كسب يده".

 

وفاة داود عليه الصلاة والسلام

 

كان نبي الله داود عليه السلام فيه غيرة شديد فكان إذا خرج أُغلق الأبواب، فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع، فخرج ذات يوم وغلقت الدار فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار، فإذا رجل قائم وسط الدار فقالت لِمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة والله لنفضحن بداود، فلما جاء داود إذا الرجل قائم في وسط الدار فقال له داود: من أنت؟ فقال: أنا الذي لا أهاب الملوك ولا يمنع مني الحجّاب، فقال داود: أنت والله إذن ملك الموت مرحبًا بأمر الله، ثم مكث حتى قبضت روحه، ولما غسل وكفن وفرغ من شأنه طلعت عليه الشمس وكانت شديدة فقال ابنه سليمان للطير: أظلّي على داود، فأظلته الطير حتى أظلمت عليه الأرض فقال سليمان للطير: اقبضي جناحًا وغلبت على التظليل عليه المضرحية وهي طيور الصقور الطوال الأجنحة، رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد.

وقيل إن عمر داود عليه السلام لما مات كان مائة سنة، وقيل: إن الناس الذين حضروا جنازة داود عليه السلام جلسوا في الشمس وكانوا في يوم صائف شديد الحرارة.

قال الله تعالى: {وإسماعيلَ واليسعَ ويونسَ ولوطًا وكُلاً فضَّلنا على العالمين} [سورة الأنعام]، وقال تعالى: {واذكُرْ إسماعيلَ واليسعَ وذا الكفلِ وكلٌّ مِنَ الأخيارْ } [سورة ص].

هو اليسع من ذرية يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام، ويقال غير ذلك. ذكر المؤرخون من قصته أنه كان بعد إلياس فقام بأمر بني إسرائيل فكان فيهم ما شاء الله أن يمكث يدعوهم إلى عبادة الله متمسكًا بنهج إلياس وشريعته وكثرت الجبابرة. وكان فيهم التابوت فيه بقية مما ترك ءال موسى وءال هارون يتوارثونه، فكانوا لا يلقاهم عدو فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم إلا هزم الله ذلك العدو.

وقال بعضهم: إن اليسع ابن عم إلياس النبي عليه السلان، ويقال كان مستخفيًا معه بجبل قاسيون من ملك بعلبك، ثم ذهب معه إليها فلما مات إلياس خلفه اليسع في قومه ونبّأه الله بعده.

قال الله تعالى: {وإنَّ إلياسَ لَمِنَ المُرسَلين} [سورة الصافات].

 

عدد المرات التي ذكر فيها إلياس عليه السلام في القرءان

 

ذكر إلياس عليه الصلاة والسلام في القرءان الكريم ثلاث مرات، مرة في سورة الأنعام، ومرتين في سورة الصافات في ءايتين أولاهما ذُكر فيها لفظ إلياس والثانية ذكر فيها لفظ إل ياسين، وهي قوله تعالى: {سلامٌ على إل ياسين} [سورة الصافات] أي إلياس لأن العرب تُلحق النون في أسماء كثيرة وتبدلها من غيرها مثل إسماعيل يقولون: إسماعين، وإسرائيل يقولون: إسرائين.

 

نسبه عليه الصلاة والسلام

 

قيل: إنه إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون، إلى أن يصل نسبه إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام.

 

دعوته عليه الصلاة والسلام

 

ذكر أهل التاريخ والتفسير أنه لما كثرت الاحداث بعد قبض النبي حزقيل عليه السلام وعبد بنو إسرائيل الأوثان والأصنام، بعث الله تعالى إليهم نبيه إلياس عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى دين الإسلام وعبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام وكان إرساله إلى أهل بعلبك من قرى لبنان فدعاهم إلى ترك عبادة صنم لهم كانوا يسمونه بعلا، قال تعالى: { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ* أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ* اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [سورة الصافات] فلم يؤمنوا به إلا نفر قليل من بني إسرائيل، فدعا عليهم بحبس المطر عنهم جزاءً لكفرهم. وحبس عنهم ثلاث سنين حتى هلكت الماشية والشجر وجهد الناس جهدًا شديدًا واستخفى إلياس عليه الصلاة والسلام عن أعينهم، وكان يأتيه رزقه حيث كان، فكان بنو إسرائيل كلما وجدوا ريح الخبز في دار قالوا هنا إلياس فيطلبونه وينال أهل المنزل منهم الشر والضر.

ثمّ إن نبي الله إلياس قال لبني إسرائيل: إذا تركتم عبادة الأصنام دعوت الله أن يفرج عنكم، فأخرجوا أصنامهم بعد أن دعوها فلم تستجب لهم فعرفوا ضلالهم، ثم طلبوا من نبي الله إلياس أن يدعو الله لهم ليفرج عنهم ما بهم من جُهد وضيق، فدعا الله تعالى ففرج عنهم كُربتهم وأرسل عليهم المطر والرخاء وأغاثهم، فحييت بلادهم ولكنهم لم يرجعوا عما كانوا عليه من عبادة الأوثان ولم يستقيموا على الصراط المستقيم كما أمرهم نبيهم، فلما رأى نبيهم إلياس عليه السلام عنادهم وإصرارهم على الكفر، دعا ربه أن يقبضه إليه ويُريحه منهم فقبضه الله تعالى، قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ* إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ* وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ* سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ* إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الصافات]. ويروى أن إلياس احتفى من ملك قومه في غار عشر سنين حتى أهلك الله الملك وولي غيره فأتاه إلياس فعرض عليه الإسلام فأسلم وأسلم من قومه خلق كثير، ويروى أنه أقام مختفيًا من قومه في كهف جبل عشرين ليلة، وقيل غير ذلك. والله أعلم بالصواب.

ويقال: إن إلياس عليه السلام توفي ودفن في بعلبك، والله أعلم.

 

قصة اليسع عليه السلام

 

قال الله تعالى: {وإسماعيلَ واليسعَ ويونسَ ولوطًا وكُلاً فضَّلنا على العالمين} [سورة الأنعام]، وقال تعالى: {واذكُرْ إسماعيلَ واليسعَ وذا الكفلِ وكلٌّ مِنَ الأخيارْ } [سورة ص].

هو اليسع من ذرية يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام، ويقال غير ذلك.

ذكر المؤرخون من قصته أنه كان بعد إلياس فقام بأمر بني إسرائيل فكان فيهم ما شاء الله أن يمكث يدعوهم إلى عبادة الله متمسكًا بنهج إلياس وشريعته وكثرت الجبابرة. وكان فيهم التابوت فيه بقية مما ترك ءال موسى وءال هارون يتوارثونه، فكانوا لا يلقاهم عدو فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم إلا هزم الله ذلك العدو.

وقال بعضهم: إن اليسع ابن عم إلياس النبي عليه السلان، ويقال كان مستخفيًا معه بجبل قاسيون من ملك بعلبك، ثم ذهب معه إليها فلما مات إلياس خلفه اليسع في قومه ونبّأه الله بعده.

 

يقول الله تبارك وتعالى: {وإنَّ يونسَ لَمِنَ المُرسلينَ* إذْ أبَقَ إلى الفُلكِ المَشحونِ* فساهَمَ فكانَ مِنَ المُدْحَضينَ* فالتَقَمهُ الحوتُ وهُوَ مُليمٌ} [سورة الصافات].

 

نسبه عليه الصلاة والسلام

 

الذي عُلمَ من نسبه من الحديث ومن كتب التفسير والتاريخ أنه يونس بن متى، ويتصل نسبه ببنيامين وهو أخو يوسف عليه السلام من أبيه وأمه.

 

عدد المرات التي ذكر فيها في القرءان الكريم

 

ذكر نبي الله يونس بن متى باسمه "يونس" في القرءان أربع مرات في سورة النساء والأنعام ويونس والصافات، وذكر بوصفه ولقبه "ذي النون" و"صاحب الحوت" في موضعين من سورتي "الأنبياء" و"القلم" قال الله تعالى في سورة الأنبياء: {وذا النُّونِ إذ ذهبَ مُغاضِبًا فظنَّ أن لنْ نقدرَ عليهِ فنادى في الظُّلُماتِ أن لا إلهَ إلا أنتَ سُبحانكَ إنِّي كنتُ مِنَ الظالمين* فاستجبنا لهُ ونجَّيناهُ مِنَ الغمِّ وكذلكَ نُنجي المؤمنين} [سورة الأنبياء]، وقال تعالى في سورة القلم: {فاصْبرْ لِحُكمِ ربِّكَ ولا تكُن كصاحبِ الحوتِ إذْ نادى وهُوَ مكظومٌ* لولا أن تداركهُ نعمةٌ من ربِّهِ لَنُبِذَ بالعراءِ وهُوَ مذمومٌ* فاجتباهُ ربُّهُ فجعلهُ مِنَ الصَّالحين} [سورة القلم].

 

دعوته عليه الصلاة والسلام

 

جعل الله تبارك وتعالى عبده يونس بن متى نبيًا ورسولاً وأرسله إلى أهل نينوى الذين كانوا في أرض الموصل بالعراق ليدعوهم إلى دين الإسلام ويعبدوا الله وحده، وكان أهل نينوى عددهم أكثر من مائة ألف قال تعالى: {وأرسلناهُ إلى مائةِ ألفٍ أوْ يزيدون} [سورة الصافات]. وكان قد دخلت فيهم الوثنية وانتشرت فيهم عبادة الأصنام وكان لهم صنمٌ يعبدونه يسمى "عشتار"، فذهب نبي الله يونس عليه السلام إلى نينوى في العراق امتثالاً لأمر الله وليبلغ رسالة الله فدعا هؤلاء المشركين إلى دين الإسلام وعبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام، فكذبوه وتمردوا وأصروا على كفرهم ولم يستجيبوا لدعوته، وبقي يونس عليه الصلاة والسلام بينهم صابرًا على الأذى يدعوهم إلى الإسلام ويذكرهم ويعظهم، ولكنه مع طول مكثه معهم لم يلق منهم إلا عنادًا وإصرارًا على كفرهم ووجد فيهم ءاذانًا صُمًا وقلوبًا غلفا. وقيل: أقام فيهم ثلاثًا وثلاثين سنة يدعوهم إلى الإسلام ولم يؤمن به خلال هذه المدة غير رجلين، ولما أصروا على كفرهم وعبادة الأصنام ووقفوا معارضين لدعوة نبي الله يونس عليه السلام، أيس يونس عليه الصلاة والسلام منهم بعدما طال ذلك عليه من أمرهم وخرج من بين أظهرهم ءايسًا منهم ومغاضبًا لهم لكفرهم قبل أن يأمره الله تعالى بالخروج وظنّ أن الله تعالى لن يؤاخذه على هذا الخروج من بينهم ولن يضيق عليه بسبب تركه لأهل هذه القرية وهجره لهم قبل أن يأمره الله تبارك وتعالى بالخروج.

يقول الله تبارك وتعالى: {وذا النونِ إذ ذهبَ مُغاضِبًا فظنَّ أن لن نقدرَ عليهِ فنادى في الظُّلُماتِ أن لا إلهَ إلا أنتَ سبحانكَ إني كنتُ من الظالمين} [سورة الأنبياء].

وقوله تعالى: {ذا النون} يعني يونس بن متى عليه السلام و"النون" أي الحوت وأضيف عليه السلام إليه لابتلاعه إياه، وقوله تعالى: {إذ ذهب مُغاضبًا} أي ذهب مغاضبًا لقومه من أهل نينوى لأنهم كذبوه ولم يؤمنوا بدعوته وأصروا على كفرهم وشركهم وأبطؤوا عن تلبية دعوته والإيمان به بما جاء به من عند الله.

فائدة: لا يجوز أن يعتقد أن نبي الله يونس عليه السلام ذهب مُغاضبًا لربه هذا كفر وضلال ولا يجوزُ في حق أنبياء الله الذين عصمهم الله وجعلهم هُداةً مهتدين عارفين بربهم، فمن نسب إلى يونس عليه السلام أنه ذهب مغاضبًا لله فقد افترى على نبي الله ونسب إليه الجهل بالله والكفر به وهذا يستحيل على الأنبياء لأنهم معصومون من الكفر والكبائر وصغائر الخسة قبل النبوة وبعدها، وأما قوله تعالى: {فظنَّ أن لن نقدرَ عليه} أي ظنَّ أن الله تعالى لن يُضيّق عليه بتركه لقومه قبل أن يؤمر بذلك، ولا يجوز أيضًا أن يعتقد أن نبي الله يونس عليه السلام ظن أن الله تعالى لا يستطيع عليه لأن هذا مما لا يعذر فيه أحد العوام فضلاً عن نبي كريم. فأنبياء الله تعالى جميعهم عارفون بالله وهم أفضل خلق الله وقد عصمهم الله تعالى من الجهل به ومن كل فعل وقول واعتقاد ينافي العصمة، ومن نسب إلى نبي الله انه ظن أن الله تعالى لا يستطيع عليه فقد نسب إليه الكفر والجهل بالله، وهذا لا يجوز في حق الأنبياء للعصمة الواجبة في حقهم. فجميع الأنبياء منذ نشأتهم كانوا عارفين بالله، وقد أفاض الله تبارك وتعالى على قلوبهم معرفته، فكانوا مؤمنين مسلمين معصومين من الكفر والضلال، فهم لا يعتقدون ما ينافي العقيدة الصحيحة التي أمرهم اتباعها وتعليمها للناس.

 

إيمانُ قوم يونس عليه السلام ورفع العذاب عنهم

 

حذّر يونس أهل نينوى من العذاب إن لم يؤمنوا به ويتبعوا دين الإسلام، ثم خرج مغاضبًا لهم لإصرارهم على كفرهم وعدم اتباعهم دعوته، ولما خرج عليه السلام وهو ءايسٌ منهم تغشاهم صباحًا العذاب وصار قريبًا جدًا منهم، وقيل: ظهرت السُّحُب السوداء في السماء وثار الدخان الكثيف وهبطت السحب بدخانها حتى غشيت مدينتهم واسودت سطوحهم ولما أيقنوا بالهلاك والعذاب أنه واقع بهم طلبوا يونس عليه السلام فلم يجدوه، وألهمهم الله التوبة والإنابة فأخلصوا النية في ذلك وقصدوا شيخًا وقالوا له: قد نزل بنا ما ترى فماذا نفعل؟ فقال لهم: ءامنوا بالله وتوبوا، عند ذلك ءامنوا بالله وبرسوله يونس عليه السلام وكانوا خرجوا من القرية ولبسوا المُسوح وهي ثياب من الشعر الغليظ، وحثوا على رءوسهم الرماد، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام، ثم عجوا ورفعوا أصواتهم في الدعاء إلى الله وتضرعوا وبكى النساء والرجال والبنون والبنات وجأرت وصاحت الانعام والدواب، وكانت ساعة عظيمة هائلة وعجوا إلى الله بالتوبة الصادقة وردوا المظالم جميعًا حتى إنه كان أحدهم ليقلع الحجر من بنائه فيرده إلى صاحبه فاستجاب الله منهم وكشف عنهم بقدرته ورحمته العذاب الشديد الذي كان قد دار على رءوسهم وصار قريبًا جدًا منهم كَقِطع الليل المظلم، ويقال إن توبتهم في يوم عاشوراء يوم الجمعة، يقول الله عز وجل: {فلولا كانتْ قريةٌ ءامَنَتْ فنفعَها إيمانُها إلا قومَ يونسَ لمَّا ءامنوا كشَفنا عنهُم عذابَ الخِزيِ في الحياةِ الدُّنيا ومتَّعناهُم إلى حينٍ} [سورة يونس].

 

ما حصل لسيدنا يونس عليه الصلاة والسلام في بطن الحوت

 

لما وعد يونس بن متى قومه بالعذاب بعد ثلاثة أيام إن لم يؤمنوا وخرج من بينهم مغاضبًا لهم بسبب كفرهم وإصرارهم وتماديهم في غيّهم وضلالهم سار حتى وصل إلى شاطئ البحر فوجد قومًا في سفينة في البحر، فطلب من أهلها أن يركبوه معهم فتوسموا فيه خيرًا فأركبوه معهم في السفينة، وسارت بهم السفينة تشقُ عُباب البحر فلمّا توسطوا البحر جاءت الرياح الشديدة وهاج البحر بهم واضطرب بشدة حتى وجلت القلوب فقال من في السفينة: إنّ فينا صاحب ذنب فأسهموا واقترعوا فيما بينهم على أنّ من يقع عليه السهم يلقونه في البحر، فلمّا اقترعوا وقع السهم على نبيّ الله يونس عليه الصلاة والسلام، ولكن لما توسموا فيه خيرًا لم يسمحوا لأنفسهم أن يلقوه في البحر، فأعادوا القرعة ثانيةً فوقعت عليه أيضًا، فشمّر يونس عليه السلام ليلقي بنفسه في البحر فأبوا عليه ذلك لما عرفوا منه خيرًا، ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت القرعة عليه أيضًا، فما كان من يونس عليه السلام إلا أن ألقى بنفسه في البحر لأنه كان يعتقد أنه لا يصيبه هلاك بالغرق فلا يجوز أن يظن أن ذلك انتحار منه لأن الانتحار أكبر الجرائم بعد الكفر وذلك مستحيل على الأنبياء وعلى هذا يحمل ما ورد في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم حين فتر الوحي عنه في أوائل البعثة همَّ أن يلقي بنفسه من ذِروة الجبل ولم يكن همه بذلك إلا لتخفيف شدة الوجدِ الذي حصل له من إبطاء الوحي عليه لا للانتحار فإنه حصل لكثير من الأولياء أنهم مشوا على الماء ولم يغرقوا، فمن حمل ما ورد في البخاري من هذه القصة أن الرسول أراد أن ينتحر فقد كفر.

وعندما ألقى يونس عليه السلام بنفسه في البحر وكّل الله تبارك وتعالى به حوتًا كبيرًا فالتقمه وابتلعه ابتلاء له على تركه قومه الذين أغضبوه دون إذن، فدخل نبي الله يونس عليه السلام إلى جوف الحوت تحفُّهُ عنايةُ الله حتى صار وهو في بطن الحوت في ظلمات حالكة ومدلهمة ثلاث وهي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت. ثم إن الحوت بقدرة الله تعالى لم يضر يونس ولم يجرحه ولم يخدش له لحمًا ولم يكسر له عظمًا، وسار الحوت وفي جوفه يونس عليه السلام يشق به عباب البحر حتى انتهى به إلى أعماق المياه في البحر، وهناك سمع يونس عليه الصلاة والسلام وهو في بطن الحوت حِسًا وأصواتًا غريبة فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت: إنَّ هذا تسبيح دواب البحر، فما كان من نبي الله يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت وفي تلك الظلمات المدلهمة إلا أن أخذ يدعو الله عز وجل ويستغفره ويسبّحه تبارك وتعالى قائلاً ما ورد عنه في القرءان: {وذا النونِ إذ ذهبَ مُغاضِبًا فظنَّ أن لن نقدرَ عليهِ فنادى في الظُّلُماتِ أن لا إلهَ إلا أنتَ سُبحانكَ إنِّي كنتُ مِنَ الظالمينَ} [سورة الأنبياء] وسمعت ملائكة السماء تسبيحه لله عز وجل وسألوا الله تعالى أن يُفرّج الضيق عنه، واستجاب الله تعالى دعاءه ونجاه من الغمّ والكرب والضيق الذي وقع فيه لأنه كان من المُسبّحين له في بطن الحوت والذاكرين، وأمر الله تعالى الحوت أن يلقيه في البرّ فألقاهُ الحوت بالعراء وهو المكان القفر الذي ليس فيه أشجار والأرض التي لا يُتوارى فيه بشجر ولا بغيره، ويونس عليه السلام مريض ضعيف. وقد مكث نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام في بطن الحوت ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام، وقيل غير ذلك. ولولا أنه سبح الله وهو في بطن الحوت وقال ما قال من التسبيح والتهليل للبث في بطن الحوت إلى يوم القيامة ولبُعث من جوف الحوت، قال الله تبارك وتعالى: {وإنَّ يونسَ لَمِنَ المُرسلينَ* إذْ أبَقَ إلى الفُلكِ المَشحون* فساهَمَ فكانَ مِنَ المُدحضين* فالتقمهُ الحوتُ وهُوَ مُليمٌ* فلولا أنَّهُ كانَ مِنَ المُسبِّحين* للَبِثَ في بطنِهِ إلى يومٍ يُبعثون* فنبذناهُ بالعراءِ وهُوَ سقيمٌ* وأنبتنا عليهِ شجرةً مِن يقطين* وأرسلناهُ إلى مائةِ ألفٍ أو يزيدونَ* فآمنوا فمَتَّعناهُم إلى حين} [سورة الصافات].

فائدة: إذا قيل: ما الفائدة في إنبات شجرة اليقطين عليه دون غيرها؟

فالجواب: أنّ يونس عليه السلام خرج من بطن الحوت كان ضعيفًا مريضًا وهزيلاً في بدنه وجلده، فأدنى شيء يمرُّ به يُؤذيه، وفي ورق اليَقطين – القرع- خاصّيةٌ وهو أنه إذا تُرك على شيء لم يقربه ذباب، فأنبته الله سبحانه وتعالى على يونس ليغطيه ورقها ويمنع الذباب ريحُه أن يسقط عليه فيؤذيه. وفي إنبات القرع عليه حكمٌ كثيرة منها: أن ورقه في غاية النعومة، وأهمية تظليل ورقه عليه لكبره ونعومته، ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى ءاخره نيئًا ومطبوخًا وبقشره وببذره أيضًا، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأكل منه.

وقد سخّر الله تبارك وتعالى لنبيه يونس عليه السلام بعد أن ألقاه الحوت من بطنه أرْوِيَّة – وهي الأنثى من الوعول- يستفيد من لبنها فكانت ترعى بالبرية وتأتيه بكرة وعشية ليتغذى بلبنها وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى وعنايته بنبيه يونس عليه الصلاة والسلام.

 

عودة نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام إلى قومه

 

ولما أصاب نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام ما أصابه من ابتلاع الحوت له، علم عليه السلام أنّ ما أصابه حصل له ابتلاء له بسبب استعجاله وخروجه عن قومه الذين أُرسل إليهم بدون إذن من الله تعالى، وعاد عليه الصلاة والسلام إلى قومه أهل نينوى في العراق فوجدهم مؤمنين بالله تائبين إليه منتظرين عودة رسولهم يونس عليه السلام ليأتمروا بأمره ويتبعوه، فمكث عليه الصلاة والسلام معهم يعلمهم ويرشدهم، ومتّع الله تعالى أهل نينوى في مدينتهم مدة إقامة يونس فيهم وبعده ءامنين مُطمئنين إلى حين، ثم لما ضلوا بعد ذلك عن الصراط المستقيم الذي جاءهم به نبيهم وتولوا عن الإيمان دمّر الله تعالى لهم مدينتهم وأنزل عليهم العذاب وصارت مدينتهم عبرة للمعتبرين، يقول الله تبارك وتعالى: {وأرسلناهُ إلى مائةِ ألفٍ أو يزيدون* فآمنوا فمتَّعناهُم إلى حين} [سورة الصافات].

فائدة: كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يلتجئ إلى الله عند الكرب والغم والشدائد فكان يكثر الصلاة والدعاء ويكثر ذكر الله تعالى، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أكربه أمرٌ قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث".

وروى الحاكم في مستدركه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دعوةُ ذي النون إذ دعا ربهُ وهو في بطن الحون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدْعُ بها رجل في شيء قطُّ إلا استجاب له" قال الحاكم أبو عبد الله: هذا صحيح الإسناد، ورواه الترمذي والنسائي.

وقال صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلمُ كلمةً لا يقولها مكروبٌ إلا فرّج الله عنه كلمة أخي يونس صلى الله عليه وسلم" {فنادى في الظُّلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين} [سورة الأنبياء].

 

فضل يونس بن متى عليه السلام

 

قال تعالى: {وإنَّ يونسَ لَمِنَ المرسلين} [سورة الصافات]، وروى البخاري وغيره بالإسناد عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلمك "لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى".

ويقال: إن سيدنا يونس دفن على ساحل البحر قبل مدينة صيدا، وقيل: هذا الموضع الذي ألقاه فيه الحوت، والله أعلم بصحة ذلك.

اختر لغتك