شجرة لأنبياء

 

يُوشَعُ بنُ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلامُ نَبِيٌّ جَاءَ بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، خَلِيفَةُ مُوسَى، أَوَّلُ نَبِيٍّ بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى هُوَ يُوشَعُ عَلَيْهِ السَّلامُ، هَذَا يُوشَعُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَرَهُ بِأَنْ يُقَاتِلَ الْكُفَّارَ الَّذِينَ كَانُوا مُسْتَوْلِينَ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ الْكُفَّارَ الْمُتَجَبِّرِينَ قَاتَلَهُمْ فَأَبَادَهُمْ، كَسَرَهُمْ حَرَّرَ الْقُدْسَ مِنْهُمْ.

مُوسَى أَيْضًا كَانَ أَمَرَ قَوْمَهُ لَمَّا أَتَى بِهِمْ مِنْ مِصْرَ، أَنْقَذَهُمْ مِنَ الْغَرَقِ بِتِلْكَ الأُعْجُوبَةِ الْعَظِيمَةِ، لَمَّا دَخَلُوا بَرَّ الشَّامِ أَمَرَهُمْ قَالَ لَهُمْ قَاتِلُوا هَؤُلاءِ الْجَبَّارِينَ الَّذِينَ بِالْقُدْسِ، الْمُسْتَوْلِينَ عَلَى الْقُدْسِ: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾

قَوْمُهُ كَانُوا أَتْعَبُوهُ مَعَ أَنَّهُمْ رَأَوْا مِنَ الْعَجَائِبِ الْكُبْرَى فَلَقَ لَهُمُ الْبَحْرَ اثْنَيْ عَشَرَ فِرْقًا فَرَقَ لَهُمْ بَحْرَ الْقُلْزُمِ وَهُوَ بَحْرٌ صَعْبٌ تَجَاوَزَ بِهِمْ هَذَا الْبَحْرَ، اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لَهُ الْبَحْرَ كَالأَرْضِ الْيَابِسَةِ، هُنَا مَاءٌ وَهُنَا مَاءٌ وَهُنَا مَاءٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَكَانًا وَمَا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا أَرْضٌ يَابِسَةٌ دَخَلُوا كَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفِ نَفْسٍ، تَجَاوَزُوا إِلَى أَنْ وَصَلُوا إِلَى الشَّاطِئِ هَذِهِ عَجِيبَةٌ كُبْرَى، وَمَعَ هَذَا خَالَفُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَقْتٍ قَصِيرٍ.

لَمَّا وَصَلُوا إِلَى بَرِّ الشَّامِ خَالَفُوهُ قَالَ لَهُمْ قَاتِلُوا هَؤُلاءِ الْجَبَّارِينَ الَّذِينَ فِي الْقُدْسِ قَالُوا إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا، قَالُوا لَهُ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ.

ثُمَّ مَاتَ مُوسَى، قَبْلَ أَنْ يَفْتَحَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ تُوُفِّيَ، الآنَ قَبْرُهُ قَبْلَ جَبَلِ الْقُدْسِ فِي أَرْضٍ اسْمُهَا أَرِيْحَة، بَيْنَ أَرِيْحَةَ وَجَبَلِ الْقُدْسِ، جَبَلُ الْقُدْسِ جَبَلٌ كَبِيرٌ مِثْلُ جَبَلِ لُبْنَانَ، هُنَاكَ مَدْفُونٌ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، بَعْدَ ذَلِكَ يُوشَعُ، اللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيَ جَعَلَهُ نَبِيًّا فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ بِقِتَالِ هَؤُلاءِ الْجَبَابِرَةِ فَقَاتَلُوهُمْ فَكَسَرُوهُمْ أَعَانَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.

مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ أَنَّ اللَّهَ رَدَّ لَهُ الشَّمْسَ بَعْدَ غُرُوبِهَا طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُنْجِزَ فَتْحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ هَذَا الْيَوْم فَكَانَتِ الشَّمْسُ غَرُبَتْ ثُمَّ أَعَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا كَانَتْ فَكَسَرُوا الْكُفَّارَ، أَنْهَوْا قِتَالَ الْكُفَّارِ فَفَتَحُوا الْبَلَدَ فَدَخَلَ الْمُؤْمِنُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قِتَالُ الْكُفَّارِ كَانَ قَبْلَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، بَعْضُ الأَنْبِيَاءِ أُمِرُوا بِذَلِكَ.

 

الحمد لله رب العالمين له الفضل وله النعمة وله الثناء الحسن، صلوات الله البـر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وءال كل وصحب كل وسائر الصالحين.

وبعد، السيدة مريم عليها السلام أم النبي عيسى المسيح هي أفضل نساء العالمين وهي إمرأة جليلة عفيفة طاهرة، صبرت على أذى قومها، وكانت تقية عارفة بالله تعالى فقد أكرمها الله عز وجل بكرامات ظاهرة، واصطفاها من بين جميع النساء، لتكون أمًّا لنبيه عيسى المسيح عليه الصلاة والسلام دون أن يكون لها زوج أو يمسها بشر.

والسيدة الجليلة مريم عليها السلام هي أفضل نساء العالمين بنص القرءان الكريم فقد قال الله عز وجل في محكم تنـزيله:{ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ}، فقوله تعالى: اصطفاك؛ أي اختارك واجتباك وفضلك.

وبنص الحديث النبوي الشريف فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:" وخير النساء مريم بنت عمران ثم فاطمة بنت محمد ثم خديجة بنت خويلد ثم ءاسية بنت مزاحم"

ولادة السيدة مريم عليها السلام

أما ولادة السيدة مريم عليها السلام ونشأتها، فقد كانت أمها واسمها حنة وهي امرأة عمران، لا تلد فرأت ذات يوم طيرًا يزق فرخه، فتحركت فيها عاطفة الأمومة، وطلبت من الله عز وجل أن يرزقها ولدًا صالحًا، ونذرت أن تجعله خادمًا في بيت المقدس، لأنها كانت تظن أنه سيكون ذكرًا، ولأن الذكر عادة يصلح للإستمرار على خدمة بيت المقدس موضع العبادة، ولا يلحقه عيب بذلك.

لكن الله تبارك وتعالى شاء لحنة امرأة عمران أن تحمل بأنثى، تكون سيدة نساء العالمين، وأمًّا لنبي من أولي العزم من الرسل وهو عيسى المسيح عليه الصلاة والسلام.

ولما ولدت امرأة عمران مولودتها الجديدة أسمتها مريم، وتولاها الله سبحانه وتعالى برحمته وعنايته وشاء الله عز وجل لنبيه زكريا عليه السلام، وكان زوج أخت مريم، أن يتكفلها دون غيره من الرجال.

فكان زكريا عليه السلام يعلمها تعاليم دين الإسلام والأخلاق الحسنة وينشئها على الأخلاق الفاضلة، فنشأت مريم عليها السلام صالحة عفيفة، طاهرة، عارفة بالله عز وجل، وتقية وولية تداوم على طاعة ربها عز وجل ءاناء الليل وأطراف النهار.

فأكرمها الله سبحانه بالكرامات الظاهرة التي كانت ءايات عجيبة دالة على عظيم قدرة الله سبحانه وتعالى، فقد كان نبي الله زكريا عليه السلام يرى عندها في المحراب، وبعد أن يغلق عليها أبواب المسجد، كان يرى فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، كرامة لها من الله عز وجل، يقول الله تعالى:{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

وكان أمين الوحي جبريل عليه السلام لما جاء مريم عليها السلام حاملاً روح نبي الله عيسى المسيح المشرف المكرم، فنفخه في جيب درعها، وكان مشقوقًا من قدامها فدخلت النفخة في صدرها، فحملت من وقتها بقدرة الله ومشيئته، بعيسى عليه السلام وتنفذت مشيئة الله تعالى في مريم عليها السلام، كما شاء ربنا تبارك وتعالى وقدر في الأزل.

واستمر حمل مريم عليها السلام بعيسى المسيح كحمل بقية النساء، بعدد من الأشهر، ثم تنحت مريم عليها السلام بحملها إلى مكان بعيد عن الناس، خوفًا من أن يعيرها الناس بولادتها من غير زوج وبعد أن صار بعض الناس من قومها يطعنون بعفتها وشرفها، ويطعنون في نبي الله زكريا عليه السلام، الذي كان يكفلها ويشرف على تربيتها، وتعليمها أحكام دين الإسلام، حتى تضايقت مريم عليها السلام من كلامهم تضايقًا شديدًا، فصبرت على مصيبتها صبرًا جميلاً، ولما حان لمريم عليها السلام وقت وضع حملها الجديد، جاءها المخاض وهو وجع الولادة الذي تجده النساء عند الوضع، فألجأها هذا الألم إلى ساق نخلة يابسة، فأسندت ظهرها إلى جذع تلك النخلة وقد اشتد همها وكربها وقالت:" قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ".

وهنا جاءها الفرج واليسر بعد العسر، فقد جاءها الملك جبريل عليه السلام أمين الوحي بأمر من الله تعالى فطمأنها وناداها من مكان منخفض، من المكان الذي كانت فيه " أَلَّا تَحْزَنِي ".

وكان الحزن قد انتاب مريم عليها السلام بسبب أنها ولدت من غير زوج، وبسبب جدب المكان الذي وضعت فيه مولودها الجديد عيسى المسيح عليه الصلاة والسلام، فطمأنها جبريل عليه السلام وبشرها، بأن الله عز وجل قد أجرى تحتها نهرًا صغيرًا عذبًا فراتًا، وأنه يطلب منها أن تهز جذع النخلة ليتساقط عليها الرطب الجني، وأن تأكل وتشرب مما رزقها الله عز وجل، وأن تقر عينها وتفرح بمولودها الجميل عيسى عليه السلام، وأن تقول لمن رءاها وسألها عن ولدها إنها نذرت للرحمن أن لا تكلم أحدًا؟

وبعد أن ولدت السيدة الجليلة مريم عليها السلام مولودها الجميل عيسى صلى الله عليه وسلم، انطلقت به إلى قومها، وكان قومها قد انطلقوا يطلبونها ويبحثون عنها، فلما رأتهم من بعيد، حملت ولدها عيسى عليه السلام، وضمته بين ذراعيها برأفة وحنان، ثم أتتهم به، وهي تحمله، وكان ذلك بعد أربعين يومًا من ولادتها له، فتلقتهم به وهي تحمله وقلبها كله ثقة وتوكل على الله عز و جل.

وحين كلمها قومها في شأن مولودها الجديد أشارت السيدة مريم عليها السلام إلى ولدها عيسى المسيح أن كلموه فتعجبوا من ذلك وقالوا لها مندهشين" كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا " فأنطقه الله تبارك وتعالى، الذي أنطق كل شىء، أنطقه الله تعالى فقال لهم بلسان فصيح:" قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ " أنطقه الله عز وجل ليخفف عن أمه مريم عليها السلام الوطأة.

فهذه صورة مشرقة عن قصة السيدة الجليلة مريم عليها السلام مع ابنها عيسى المسيح صلى الله عليه وسلم، تلك المرأة الصالحة التقية الصديقة العارفة بالله سبحانه وتعالى، والتي انقطعت لعبادة ربها وخالقها عز وجل وكانت خير مثال للمرأة التقية، التي تحملت المصائب من قومها بنفس راضية مرضية، غير معترضة على ربها، حتى نالت هذه المنـزلة عند خالقها فكانت سيدة نساء العالمين، لذلك ذكرها الله تعالى باسمها في القرءان الكريم من بين النساء، وأثنى عليها الثناء الحسن.

فكم هو حري بالنساء في كل زمان ومكان وعلى مر الدهور والأجيال أن يقتدين بالسيدة الجليلة مريم عليها السلام ويتخذنها قدوة حسنة في حياتهن وسلوكهن، ليكتسبن المعالي والدرجات العالية.

ونسأل الله تبارك وتعالى أن يرحمنا برحمته الواسعة ويرزقنا حسن الختام بجاه النبي محمد صلى الله عليه وسلم وءاخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

قال الله تبارك وتعالى: {ما المسيحُ ابنُ مريمَ إلا رسولٌ قدْ خَلَتْ مِنْ قبلِهِ الرُّسُلُ وأمُّهُ صِدِّيقةٌ} [سورة المائـــــــــــــــــدة].

 

عدد المرات التي ذكـــــــــــــــر فيها في القرءان

 

ذكر عيسى في ثلاث عشرة سورة من القرءان، وفي ثلاث وثلاثين ءاية منـــــــــــــــــــــــــــــــــه.

 

نسبه ونسب أمــــــــــــــــــــه عليهما السلام

 

هو عبد الله ورسوله عيسى ابن مريم بنت عمران وهو ءاخر أنبياء بني إسرائيل عيشًا في الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: "الأنبياء أخوة لعلات دينهم واحد وأمهاتهم شتى وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ليس بيني وبينه نبي" رواه البخاري، كما أن ءاخر الأنبياء والرسل جميعًا هو محمد صلوات الله وسلامـــــــــــــــه عليهم أجمعين.

فسيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام عبد من عباد الله خلقه الله تعالى وصوره في الرحم كما صور غيره من البشر، وقد خلقه تعالى من غير أب كما خلق ءادم من غير أب وأم، قال الله عز وجل: {إنَّ مثلَ عيسى عندَ اللهِ كمثلِ ءادمَ خلقهُ من تُرابٍ ثمَّ قالَ لهُ كنْ فيكونُ} [سورة ءال عمـــــــــــــــــــــــــــــــران].

وأم نبي الله عيسى عليه السلام هي مريم بنت عمران من سلالة نبي الله داود عليه السلام، الصديقة الولية البتول العذراء الطاهرة التي تربّت في بيت الفضيلة وعاشت عيشة الطهر والنزاهة والتقوى، وقد أثنى الله تبارك وتعالى عليها في القرءان الكريم في مواطـــن عديدة، قال الله تعالى: {ومريمَ ابْنتَ عِمرانَ التي أحصنتْ فرجَها فنَفخْنا فيهِ من روحنا وصدَّقَتْ بكلماتِ ربِّها وكُتُبهِ وكانت منَ القانتينَ} [ٍسورة التحريــــــــم].

وقد كان والد مريم عليها السلام عمــران رجلاً صالحًا عظيمًا وعالمًا جليلاً من علماء بني إسرائيل، وكانت زوجته عاقرًا لا تلد واسمها "حنة" وهي من العابدات، وكان زكريا نبي الله زوج أخت مريـــم في قول الجمهور وقيل زوج خالتها. وقد نذرت حنة لله إن حملت لتجعلن ولدهـا محررًا لله أي خالصًا لخدمة بيت المقدس، فاستجاب الله عز وجل دعاءها فحملت بمريم عليها السلام، فلما وضعت حملها كان الولد أنثى وكانـت ترجو أن يكون الولد ذكرًا ليخدم في بيت الله عندئذ توجهت بالدعاء إلـى الله تعالى، قال الله تعالى: {فلمَّا وَضَعَتها قالتْ رَبّ إنِّي وضعتُها أنثــى واللهُ أعلمُ بما وضعَتْ وليسَ الذَّكرُ كالأنثى وإنِّي سمَّيتُها مريمَ وإنـــي أُعيذُها بِكَ وذُرِّيَّتَها منَ الشيطانِ الرَّجيمِ} [سورة ءال عمران]. وقـــد استجاب الله تعالى لها قال تعالى: {فَتَقبَّلها ربُّها بقبولٍ حسَنٍ وأنبتَها نباتًا حسنًا} [سورة ءال عمــــــــــــــــــــــران].

 

نشأة مريم عليها السلام وتبشير الملائكــــــــــــــة لها

 

نشأت الصديقة الولية مريم عليها السلام نشأة طهر وعفاف وتربت على التقوى تؤدي الواجبات وتكثر من نوافل الطاعات، وعاشت في جــوار بيت المقدس، وقد وصفها الله تعالى في القرءان الكريم بالصدّيقة، وكانت الملائكة تأتي إلى مريم عليها السلام وتزورها، إلى أن جاءت إليها فـي وقت وبشرتها باصطفاء الله تعالى لها من بين سائر النساء وبتطهيـرها من الأدناس والرذائل، وبشرتها كذلك بمولود كريم يكون له شأن عظيـم في الدنيا والآخرة ويكلم الناس صغيرًا في المهد ويكون كهلاً ومـــن الصالحين، يقول الله تعالى في القرءان الكريم: {وإذ قالتِ الملائكــةُ يا مريمُ إنَّ اللهَ اصطفاكِ وطَهَّرَكِ واصطفاكِ على نساءِ العالمينَ* يا مريـمُ اقنُتي لربِّكِ واسجُدي وارْكعي معَ الرَّاكعينَ} [ســــورة ءال عمران].

ويقول الله تعالى إخبارًا عن تبشير الملائكة لمريم عليها السلام بعيسـى صلى الله عليه وسلم: {إذْ قالتْ الملائكةُ يا مريمُ إنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكلمةٍ منهُ اسمُهُ المسيحُ عيسى ابنُ مريمَ وجيهًا في الدُّنيا والآخرةِ ومِنَ المُقَرَّبيـنَ* ويُكَلِّمُ النَّاسَ في المهدِ وكَهْلاً ومِنَ الصَّالِحينَ} [ســـورة ءال عمران].

فائدة: روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد بالإسناد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلـى الله عليه وسلم: "خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد"، وروى أحمد وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حسبك مــن نساء العالمين بأربع: مريم بنت عمران، وءاسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمــــــــــــــــــــة بنت محمد".

 

ذكر ولادة نبي الله عيسى ابن مريم عبد الله ورسولـــــه وبيان حال

أمه مريــــــم العذراء البتول حين ولادتــــــــــــه

 

قال الله تبارك وتعالى: {واذكُرْ في الكتابِ مريمَ إذِ انتَبَذَتْ مِنْ أهلِها مكانًا شرقيًا* فاتَّخَذَتْ مِنْ دونِهِم حِجابًا فأرسَلنا إليها رُوحَنا فتمَثَّلَ لها بَشَــرًا سويًا* قالتْ إنِّي أعوذُ بالرحمنِ منكَ إنْ كُنتَ تقيًا* قالَ إنَّما أناْ رسـولُ ربِّكِ لأهَبَ لكِ غُلامًا زَكيًّا* قالَتْ أنَّى يكونُ لي غُلامٌ ولمْ يَمْسَسْني بَشـرٌ ولمْ أكُ بغيًّا* قالَ كذلكَ قالَ ربُّكِ هُوَ عليَّ هَيِّنٌ ولِنَجعلهُ ءايـــةً للناسِ ورحمةً منَّا وكانَ أمْرًا مقضيًّا* فحَمَلتهُ فانْتَبَذَتْ بهِ مكانًا قَصِيًّا* فأجاءَها المخاضُ إلى جِذعِ النَّخلةِ قالتْ يا ليتني مِتُّ قبلَ هذا وكنتُ نَسْيًا منسـيًّا* فناداها مِنْ تَحتِها ألا تحزني وقد جَعَلَ ربُّكِ تحتكِ سريًّا* وهُزِّي إليــكِ بجذعِ النَّخلةِ تُسقِطْ عليكِ رُطَبًا جَنِيًّا* فَكُلي واشربي وقَــرِّي عينًا فإمَّا تَرَيِنَّ البشرِ أحدًا فقُولي إنِّي نذرتُ للرَّحمنِ صَوْمًا فلنْ أُكَلِّمَ اليـومَ إنْسِيًا* فأتَتْ بهِ قومَها تحمِلُهُ قالوا يا مريمُ لقدْ جِئتِ شيئًا فَرِيًّا* يا أخـتَ هارونَ ما كانَ أبوكِ امرأ سَوءٍ وما كانتْ أمُّكِ بَغيًّا* فأشارَتْ إليهِ قالوا كيفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ في المهدِ صبيًّا* قالَ إنِّي عبدُ اللهِ ءاتانيَ الكتابَ وجَعَلنـي نبيًّا* وجَعَلني مُباركًا أينَ ما كنتُ وأوصاني بالصلاةِ والزكاةِ ما دمــتُ حيًّا* وبرًّا بوالدَتي ولم يجعلني جبَّارًا شقيًّا* والسَّلامُ عليَّ يومَ وُلِدْتُ ويــومَ أموتُ ويومَ أُبعَثُ حيًّا* ذلكَ عيسى ابنُ مريمَ قَوْلَ الحقِّ الذي فيــــهِ يَمْتُرونَ* ما كانَ للهِ أن يتَّخِذَ مِن ولدٍ سُبحانهُ إذا قضى أمرًا فإنَّما يقولُ لهُ كُنْ فيكونُ* وإنَّ اللهَ ربِّي وربُّكُم فاعبُدوهُ هذا صراطٌ مُستقيمٌ* فاخْتَلَـفَ الأحزابُ مِنْ بينِهم فويلٌ للذينَ كفروا مِن مشْهَدِ يومٍ عظيمٍ} [سورة مريم].

تقدم أن مريم كانت تعبد الله وتقوم بخدمة المسجد، وكانت تخرج منه في زمن حيضها أو لحاجة ضرورية لا بد منها، وفي ذات يوم خرجت مـن محرابها الذي كانت تعبد الله تعالى فيه وسارت جهة شرقي بيت المقدس وأمر الله تعالى الروح الأمين وهو جبريل عليه السلام أن يذهب إليــها ليبشرها بعيسى عليه السلام وهناك تمثل لها جبريل في صــورة شاب جميل أبيض الوجه فلما رأته مريم عليها السلام لم تعرف أنه جبريــل ففزعت منه واضطربت وخافت على نفسها منه وارتابت في أمره حيـث ظهر لها فجأة في ذلك المكان، وصارت تبتعد منه ثم قالت ما أخبـر الله به: {قالَتْ إنِّي أعوذُ بالرحمنِ منكَ إنْ كُنتَ تقيًّا} أي إن كنت تقيًّا مطيـعًا فلا تتعرض لي بسوء، لكن جبريل عليه السلام سرعان ما أزال عنــها اضطرابها وهدأ من روعها وقال لها: {إنَّما أناْ رسولُ ربِّكِ لأهَبَ لــكِ غُلامًا زكيًّا} أي أني لست ببشر ولكني ملك أرسلني الله تعالى إليك لأهب لك غلامًا يكون طاهرًا نقيًا قالت: {قالت أنَّى يكونُ لي غلامٌ ولم يَمسسني بشرٌ ولم أكُ بغيًّا} أي ليس لي زوج ولست بزانية فقد تعجبت مريم عليها السلام عندما بشرها جبريل بالغلام لأنها بكر غير متزوجة وليست زانية {قالَ كذلكَ قالَ ربُّكِ هُوَ عليَّ هيِّنٌ ولِنجعلهُ ءايةً للناسِ ورحمةً منَّا وكـانَ أمرًا مقضيًّا} فأجابها جبريل عن تعجبها بأن خلق ولد من غير أب سهـل هين على الله تعالى، وليجعله علامة للناس ودليلاً على كمال قدرتـــه سبحانه وتعالى وليجعله رحمة ونعمة لمن اتبعه وصدقه وءامن بـــه.

وأمر الله تبارك وتعالى جبريل عليه السلام أن ينفخ في مريم البتول روح عيسى المشرفة عنده فنفخ أمين الوحي جبريل روح عيسى في أعلــى جيب قميص مريم عليها السلام فوصلت بنفخته الروح من فم مريم إلـى رحمها عليها السلام بقدرة الله وحملت بتلك النفخة بالسيد المسيح عليــه السلام قال تعالى: {والتي أحصَنتْ فرجَها فنَفَخنا فيها مِن روحِنا وجَعَلناها وابنَها ءايةً للعالمينَ} [سورة الأنبياء]، ويقال إن عمر مريم عليها السـلام حين حملت بعيسى المسيح عليه السلام كان ثلاث عشرة سنة، وقد اختلف العلماء في مدة الحمل فقيل: تسع ساعات وقيل: ثمانية أشهر، وقيل: تسعة أشهر، والله أعلـــــــــــــــــــــــــــم.

 

اتهام مريم وولادتها السيد المسيـــــــــح عليه الصلاة والسلام

 

لما حملت السيدة مريم عليها السلام بعيسى وظهرت عليها ءاثار الحمـل كان أول من فطن لذلك زكريا عليه السلام وقيل ابن خالها يوسف بــن يعقوب النجار وكان من عباد الله الصالحين، فجعل يتعجب من ذلك لمـا يعلم من تدينها ونزاهتها فقال لها مرة يعرض لها في حملها: يا مريم هل يكون زرعٌ من غير بذر؟ فقالت له: نعم فمن خلق الزرع الأول؟ ثم قال لها: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم إن الله خلق ءادم من غيـر ذكر وأنثى، عندئذ قال لها: فأخبريني خبرك، فأخبرته حقيقة أمرها وقالت له: إن الله تعالى بشرني بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريـم وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومـــن الصالحيــــــــــــــــــــــــــــــن.

شاع الخبر في بني إسرائيل أن مريم حامل فأساء بها الظن كثير منهـم واتهمها البعض بيوسف النجار الذي كان يتعبد معها في المسجد، واتهمها ءاخرون بنبي الله زكريا عليه السلام، وحزنت مريم عليها السلام حـزنًا شديدًا واعتراها كرب عظيم وتوارت عن أعينهم واعتزلتهم وانتبــذت بحملها مكانًا بعيدًا فرارًا من قومها أن يعيروها بولادتها من غيـر زوج، وذلك أنها علمت أن الناس يتهمونها ولا يصدقونها إذا أتتهم بمولــودها الصغير مع أنها كانت عندهم من العابدات الناسكات المجاورات فـــي المسجد في عبادة الله سبحانـــــــــــــــــــــه.

لما أتمت مريم عليها السلام أيام حملها وهي في بيت لحم اشتد بـــها المخاض ثم ألجأها وجع الولادة إلى جذع نخلة يابسة وقيل كانت نخلـة مثمرة، فاحتضنت ذلك الجذع وولدت مولودها عيسى عليـــه السلام، وناداها جبريل عليه السلام من مكان من تحتها من أسفل الجبل يطمئنها ويخبرها أن الله تبارك وتعالى جعل تحتها نهرًا صغيرًا ويطلب منها أن تهز جذع النخلة ليتساقط عليها الرطب الجني الطري وأن تأكل وتشـرب مما رزقها الله تعالى وأن تقر عينها بذلك وأن لا تكلم إنسًا فإن رأت أحدًا من الناس تقول له بالإشارة أنها نذرت للرحمن صومًا أي صمتًا، وكـان من صومهم في شريعتهم ترك الكلام والطعام، فهزت مريم عليها السلام جذع النخلة فتساقط عليها الرطب الجني الناضج فأكلت عليها السلام منه وشربت من ذلك النهر الذي أجراه الله تبارك وتعالى بقدرته لها في مكان كان لا يوجد فيه نهر، وكل ذلك إكرامًا من الله سبحانه وتعالى لمريــم على إيمانها وصلاحها وعناية بوليدها السيد المسيح عيسى عليـه الصلاة والســــــــــــــــــــــــــــــــلام.

أتت السيدة مريم عليها السلام قومها تحمل مولودها عيسى عليه السـلام على يدها في بيت لحم فلما رءاها قومها قالوا لها: لقد فعلت فعلة منكـرة عظيمة، فإن أباك لم يكن رجل سوء ولم تكن أمك زانية، وظنـــوا بها السوء وصاروا يوبخونها ويؤنبونها وهي ساكتة لا تجيب لأنها أخبرتهـم أنها نذرت للرحمن صومًا، ولما ضاق بها الحال أشارت إلى عيسى عليه السلام أن كلموه فعنده جواب ما تبغون، عندها قالوا لها متعجبيــن: ما أخبر الله به بقوله: {كيفَ نُكَلِّمُ مَن كانَ في المهدِ صبيًّا} وما هذا إلا على سبيل التهكم بنا والازدراء إذ لا تردين علينا بكلام، عند ذلك أنطـق الله تبارك وتعالى بقدرته الرضيع "عيسى" عليه السلام وكان عمره أربعيـن يومًا {قالَ إنِّي عبدُ اللهِ} وهذا اعتراف منه عليه السلام بالعبودية لله تبارك وتعالى وهذه أول كلمة نطق بها عيسى وهو في المهد {ءاتانــيَ الكتابَ وجعلني نبيًّا} وهذا إخبار عما قضى الله تعالى له وحكم له به ومنحه إياه مما سيظهر ويكون، وفي ذلك تبرئة لأمه مما نسبوا إليها واتهموها بـه، فإن الله تعالى لا يعطي النبوة لمن هو كما زعموا، ثم قال لهم عيســى عليه السلام ما أخبر الله تعالى به: {وجعلني مُباركًا أيــنَ ما كنتُ} أي نفاعًا حيثما توجهتُ معلمًا للخير، وذلك أن عيسى عليه السلام كان يدعو حيث كان إلى عبادة الله تعالى وحده وأن لا يُعبدَ شيء غيره. قال تعالى إخبارًا وحكاية عن عيسى: {وأوصاني بالصلاة والزكاةِ ما دُمــتُ حيًّا* وبرًّا بوالدتي ولم يجعلني جبارًا شقيًّا} وهذا أيضًا إخبار عما قضى الله له ومنحه إياه مما سيظهر ويكون، فكان نبي الله عيسى عليه السلام يصلـي لله تعالى كما أمره، ويحسنُ إلى عباد الله بالزكاة وبذل الأموال والعطايا للمحتاجين والفقراء، ولم يكن عليه السلام فظًا ولا غليظًا، قال تعالــى إخبارًا عن عيسى عليه السلام وما أنطقه به في المهد: {والسَّلامُ عليَّ يومَ ولدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أبعثُ حيًّا} فلما كانت هذه المواطن الثلاثة أشـقُّ ما يكون على ابن ءادم جعل الله تعالى السلامة على نبيه عيسى عليــه السلام في هذه المواطن الثلاثة يوم ولادته وعندما يموت وعند البعث يوم القيامــــــــــــــــــــــــــــــــة.

فائدة: بعد أن تكلم عيسى عليه السلام وهو في المهد واعترف بالعبوديـة لله تعالى ودفع التهمة الباطلة عن أمه مريم إلى ءاخر كلامه وهو فــي المهد، أمسك بعد ذلك عن الكلام حتى بلغ المبلغ المعتاد في نطــــق الصبيان فأنطقه الله تعالى بالحكمة وحســــــــــــن البيان.

 

اختلاف الناس في أمر عيسى ابن مريـــــم عليهما السلام وبيان أن

عيسى هو عبد الله ورســــــــــــــــــــــوله

 

قال تعالى: {ذلكَ عيسى ابنُ مريمَ قَوْلَ الحقِّ الذي فيهِ يَمترونَ* مـا كانَ للهِ أنْ يَتَّخِذَ مِن ولدٍ سُبحانهُ إذا قضى أمرًا فإنَّما يقولُ لهُ كُنْ فيكـــونُ} [ســـــــــــــــــــــــــــــورة مريم].

أي أن عيسى عليه السلام هو عبد من عباد الله مخلوق من امرأة وهـي أمه مريم، والله تعالى لا يعجزه شيء ولا يؤوده ويتعبه شيء، بل هــو يوجد ما أراد وجوده بسرعة أي من غير تأخر عن الوقــت الذي أراد وجوده فيه من غير أن يلحقه تعب ولا مشقة، وقال الله تبارك وتعالـى: {فاخْتَلَفَ الأحزابُ من بينِهم فوَيلٌ للذينَ كفروا مِن مشهدِ يـــومٍ عظيمٍ} [سورة مريم] أي اختلف أهل ذلك الزمان ومن بعدهم في أمر عيسى عليه السلام فمن قائل من اليهود إنه ابن امرأة زانية واستمروا على كفرهــم وعنادهم قال تعالى: {وبِكُفرِهِم وقولهم على مريمَ بُهتانًا عظيمًا} [سـورة النساء]، وقابلهم ءاخرون في الكفر فقالوا: هو الله، وقال ءاخرون: هـو ابن الله، وقال ءاخرون: الله ثالث ثلاثــــــــــــــــة.

وقال المؤمنون: هو عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريـم وروح منه، وهؤلاء هم الناجون المنصورون، وقد توعد الله تعالـــى الكافرين بالعذاب يوم القيامة قال الله تبارك وتعالى: {فويلٌ للذينَ كفـروا مِن مشهدِ يومٍ عظيمٍ}، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من شهـد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حـق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان مـــــــن العمل" رواه البخاري.

ومعنى "وروح منه" أن المسيح روحٌ صادرة من الله تعالى خلقًا وتكوينـًا وليس المعنى أن المسيح جزءٌ من الله تعالى، فالله سبحانه وتعالى ليـس أصلاً لغيره ولا هو فرعٌ عن غيره وليس روحًا ولا جسدًا {لمْ يَلِدْ ولــمْ يولَدْ* ولمْ يكُنْ لهُ كُفُوًا أحدْ} [سورة الإخلاص]، ودليلُ ما ذكرناه قولــه تعالى: {وسَخَّرَ لكُم ما في السمواتِ وما في الأرضِ جميعًا منهُ إنَّ فـي ذلك لآياتٍ لقومٍ يتَفكَّرونَ} [سورة الجاثية] أي أن جميع ما في السمـوات وما في الأرض من الله تعالى خلقًا وتكوينًا وليس المعنى أنها أجزاءٌ منه تعالـــــــــــــــــــــــــــــــــى.

وقد قال تعالى بعد ذكر قصة عيسى عليه السلام وما كان من أمره فـي سورة ءال عمران: {ذلكَ نتلوهُ عليكَ مِنَ الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ* إنَّ مَثَلَ عيسى عندَ اللهِ كمَثلِ ءادمَ خلقهُ مِن تُرابٍ ثمَّ قالَ لهُ كُنْ فيكونُ* الحَقُّ مِن ربِّكَ فلا تَكُن مِنَ المُمْتَرينَ} [سورة ءال عمران]، وقال تعالى: {إنَّ هـذا لهُوَ القصصُ الحقُّ وما مِنْ إلهٍ إلا اللهُ وإنَّ اللهَ لهُوَ العزيزُ الحكيـمُ* فإنْ تَوَلَّوْا فإنَّ اللهَ عليم بالمُفسدينَ} [سورة ءال عمـــــــــــران].

 

ظهور العجائب عليــــه في صباه وبدء نزول الوحي عليـــــه

 

لما وُلد عيسى ابن مريم عليه السلام ظهرت أمور عجيبة تعظيمًا لشـأن هذا المولود ولما سيكون من أمره في المستقبل من جعله رسولاً يدعـو الناس إلى عبادة الله تعالى وحده وإلى الشرع القويم الذي أنزل عليــه.

فقد روي أنه لما ولد السيد الجليل عيسى ابن مريم عليه السلام أصبحـت الأصنام التي كانت تعبد من دون الله في زمان ولادته بكل أرض مقلوبة منكوسة على رءوسها ففزعت الشياطين وراعها فلم يدروا ما سبب ذلك، فساروا عند ذلك مسرعين حتى جاءوا إبليس اللعين فأخبروه بذلك، فطار إبليس فمر بالمكان الذي ولد فيه عيسى عليه السلام، فلما رأى الملائكـة محدقين بذلك المكان علم أن ذلك الحدث بسبب ولادة ذلك المولود، فأراد إبليس اللعين أن يأتيه فلم تمكنه الملائكة من الدنو منـــــــــه.

ولما بلغ ذلك المولود الرضيع من العمر ثمانية أيام حملته أمه إلى الهيكل فختن، لأن الختان من الفطرة وهو من سنن الأنبياء من عهد نبــي الله إبراهيم عليه السلام، وسمَّت مريم عليها السلام مولودها "عيسى" كمــا أمرها جبريل عليه السلام حين بشّرها به بأمر من الله تبارك وتعالــى.

كان عيسى ابن مريم عليهما السلام يظهر عليه العجائب بقدرة الله تعالى، فلما ترعرع عليه السلام وفشا أمره بين اليهود أرادوا به سوءًا وأغـروا ملك الروم "هيرودس" بقتله، فلما علمت أمه مريم عليها السلام بمؤامـرة اليهود خافت عليه وانطلقت به إلى مصر وهي الربوة التي ذكــرها الله تعالى في القرءان بقوله: {وجَعَلنا ابنَ مريمَ وأمَّهُ ءايةً وءاوَيْناهُما إلــى ربوةٍ ذاتِ قَرارٍ ومَعِينٍ} [سورة المؤمنون] أخبر الله تعالى في هذه الآيـة أنه جعل عبده ورسوله عيسى المسيح عليه السلام وأمه مريم ءاية للناس أي علامة وحجة قاطعة على قدرته تعالى على ما يشاء، وكذلك أخبــر تعالى في هذه الآية بأنه ءاوى عبده عيسى وأمه مريم عليهما السلام إلى ربوة من الأرض ذات قرار ومعين يجري فيها الماء، وهي على أحــد الأقوال بلاد مصر التي قصدتها مريم عليها السلام حاملة مولودها عيسى المسيح عليه السلام، فترعرع هناك ونشأ وعاش بين ربوعها اثنتي عشرة سنة، وقيل: إنه لما بلغ سبع سنين أسلمته أمه إلى "الكُتَّاب" فجعل لا يعلمه المعلم شيئًا إلا بدره إليــــــــــــــــــــــــه.

يقال إنه بعد موت ملك الروم "هيرودس" أمر الله تعالى عبده عيسى عليه السلام أن يرجع من بلاد مصر إلى بيت المقجس في فلسطين، وقدم عليه ابن خالة أمه يوسف النجار فحمله وأمه على حمار حتى جاء بهما إلـى بيت المقدس، وقيل: نزل هو وأمه بقرية يقال لها "ناصرة" وبها سُميـت "النصارى". ولما بلغ عيسى عليه السلام الثلاثين من العمر أوحـى الله تعالى إليه أن يبرز للناس ويدعوهم إلى عبادة الله تعالى، فصار عليـه السلام يدعو الناس إلى ذلك ويقول لهم: أيها الناس اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا وءامنوا بأني رسول الله إليكم، فآمن به اثنا عشر شخصًا يسمون "الحواريين" فأخذ عيسى عليه السلام يُوزعهم في نواحي الأرض يدعون إلى عبادة الله تعالى وحده ونشر دين الإسلام الذي هو دين جميع الأنبياء والملائكة، وقد أيده الله تعالى بالمعجزات الباهرات فكان عليــه السلام يشفي المرضى والزمنى والأكمه والأبرص وغيرهم من المرضى حتى أحبه الناس وكثر أتباعه وعلا ذكره وشأنه بين الناس، وكان عليـه السلام يقضي أيامه في التجوال والسياحة في الأرض لدعوة الناس إلـى ديـــــــــــــــــــــــــــــن الإسلام.

 

دعوته عليه الصلاة والسلام والكتاب الذي أُنزل عليــــــــــه

وأتباعه المؤمنـــــــــــــــــــــــــــون

 

أرسل الله تبارك وتعالى عيسى إلى بني إسرائيل يدعوهم لدين الإسـلام وعلّمه التوراة وأنزل عليه كتابًا سماويًا وهو الإنجيل الذي فيه دعوة إلى الإيمان بالله الواحد الأحد خالق كل شيء وإلى الإيمان بأن عيسى عبد الله ورسوله، وفيه بيان أحكام شريعته، وفيه البشارة بنبي ءاخر الزمان وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضًا تحريم الربا وكــل ضار للعقل أو البدن وأكل لحم الخنزير، وفيه الأمر بالصلاة والصيام وغيـر ذلك من أمور الدين، وكان أصل دعوته شيئين إفرادُ الله بالعبادة والإيمان به أنه نبيه، ولم يسم نفسه ابنًا لله ولا سمى الله أبًا له وإنما المذاهـــب الثلاثة التي هي أصول اختلاف النصارى في عيسى عليه السلام هي من تأليف بولس، وكانت أول كلمة أنطقه الله بها وهو في المهد: {إنِّي عبـدُ اللهِ} حيث اعترف بالعبودية لله تعالى وحده رب كل شيء وخالق كــل شيء. ولقد حذّر عيسى المسيح عليه السلام قومه بني إسرائيل من الكفر والإشراك وبيَّنَ لهم أنه من يشرك بالله تعالى فقد حرَّم الله تعالى عليــه الجنة ومأواه نار جهنم خالدًا فيها أبدًا، قال الله عز وجل: {لقد كَفَرَ الذينَ قالوا إنَّ اللهَ هُوَ المسيحُ ابنُ مريمَ وقالَ المسيحُ يا بني إسرائيلَ اعبُدوا اللهَ ربي وربُّكُم إنَّهُ مَن يُشرِك باللهِ فقد حرَّمَ اللهُ عليهِ الجنَّةَ ومأواهُ النارُ وما للظالمينَ من أنصارٍ} [سورة المائدة]، أي ليس للكافرين أنصار يحمونهم من عذاب الله في الآخـــــــــــــــــــــــرة.

كان أتباع عيسى المسيح عليه السلام الذين صدّقوه واتبعوه وءامنوا بـه مسلمين مؤمنين، وكان من أتباعه وتلامذته وصفوته وخاصتـــــه "الحواريون" الذين كانوا أعوانًا له ينشرون دعوته وشرعه ويعلمـــون الناس الخير وتعاليم الشرع الحنيف الذي أوحي به إلى عيسى عليـــه الصلاة والسلام، يقول الله تبارك وتعالى: {وإذْ أَوْحَيتُ إلى الحواريينَ أنْ ءامِنوا بي وبرسولي قالوا ءامنَّا واشْهَدْ بأنَّنا مُسلمونَ} [سورة المائــدة] وإنما طلبوا شهادة عيسى ابن مريم عليه السلام بإسلامهم تأكيدًا علــى إيمانهم، لأن الرسل والأنبياء يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم، وفـي هذا دليل أيضًا على أن الإسلام والإيمان متلازمــــــــــان.

يقول الله تبارك وتعالى في بيان حال عيسى وأمه مريم عليهما السـلام: {ما المسيحُ ابنُ مريمَ إلا رسولٌ قدْ خَلَتْ مِنْ قبلِهِ الرُّسُلُ وأمُّهُ صِدِّيقةٌ كانا يأكُلانِ الطَّعامَ انظُرْ كيفَ نُبَيِّنُ لهُمُ الآياتِ ثمَّ انظُر أنَّى يُؤْفَكونَ} [سـورة المائــــــــــــــــــــــــــــــــدة].

ويقول الله تعالى: {وإذ قالَ عيى ابنُ مريمَ يا بني اسرائيلَ إنِّي رسـولُ اللهِ إليكُم مُصَدِّقًا لِما بينَ يَدَيَّ منَ التَّوراةِ ومُبَشِّرًا برسولٍ يأتي من بعدي اسمُهُ أحمدُ فلمَّا جاءَهُم بالبيِّناتِ قالوا هذا سحرٌ مُبينٌ} [ســورة الصف].

وقال الله عز وجل في بيان الكتاب الذي أنزله على نبيه عيسى ابن مريم عليهما السلام: {وقَفَّينا على ءاثارِهِم بعيسى ابنِ مريمَ مُصَدِّقًا لما بينَ يديهِ مِنَ التَّوراةِ وءاتَيناهُ الإنجيلَ فيهِ هُدًى ونورٌ ومُصَدِّقًا لما بينَ يديهِ مــن التَّوراةِ وهُدًى ومَوْعِظةً للمُتَّقينَ} [سورة المائــــــــــــدة].

وقال الله تبارك وتعالى: {يا أيُّها الذينَ ءامنوا كُونوا أنصارَ اللهِ كمـا قالَ عيسى ابنُ مريمَ للحواريينَ مَنْ أنصاري إلى اللهِ قالَ الحَواريُّونَ نحــنُ أنصارُ اللهِ فآمنَتْ طائفةٌ مِن بني إسرائيلَ وكفَرَتْ طائفةٌ فأيَّدنا الذيـــنَ ءامنوا على عَدُوِّهم فأصبحوا ظاهرينَ} [سورة الصف]. أولئك أمّة عيسى عليه السلام الصادقون الذين كانوا على هدي نبيهم عيسى عليه السـلام وعلى طريقته وتعاليمه حتى بعد رفعه إلى السماء إلى مائتي سنة، ثم بعد ذلك صار عدد المؤمنين منهم ينقص شيئًا فشيئًا وصار يكثر الذيـــن يعبدون عيسى عليه السلام ويحرّفون ما جاء به من تعاليم سماويـــة.

فائدة: يروى أن التوراة أنزلت على موسى لست ليال خلت من شهــر رمضان، وأنزل الزبور على داود لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهـــر رمضان وذلك بعد التوراة بأربعمائة واثنتين وثمانين سنة، وأنزل الإنجيل على عيسى لثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان بعد الزبور بألـف عام وخمسين عامًا، وأنزل الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم لأربع وعشرين من شهــــــــــــــــــــــر رمضان.

تنبيه: الرهبانية التي ابتدعها أتباع المسيح عليه الصلاة والسلام ومدحهم الله عليها يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {وجعلنا في قُلــوبِ الذينَ اتَّبعوهُ رأفةً ورحمةً ورهبانِيَّةً ابتدعوها ما كَتَبناها عليهم إلا ابتغـاءَ رِضوانِ اللهِ} [سورة الحديد] فالله تبارك وتعالى مدح في هذه الآية الذيـن كانوا من أمّة عيسى المسلمين المؤمنين المتبعين لنبيهم عيسى عليـــه السلام بالإيمان والتوحيد وكانوا صادقين لأنهم كانوا أهل رأفة ورحمـة ولأنهم ابتدعوا بدعة حسنة وهي "الرهبانية"، وهذه الرهبانية هي الانقطاع عن الشهوات حتى أنهم انقطعوا عن الزواج رغبة في تجريدهم لعبــادة خالقهم، فقوله تعالى: {ما كتبناها عليهم إلا ابتغاءَ رضوانِ اللهِ} أي نحـن ما فرضناها عليهم إنما هم أرادوا التقرب إلى الله تعالى، فالله تعالى مدح هؤلاء الصادقين من أتباع عيسى عليه السلام على ما ابتدعوا مما لــم يُنصَّ لهم عليه في الإنجيل الذي أنزل على نبيهم عيسى عليه السلام ولا قال لهم المسيح عليه السلام افعلوا هذه الرهبانية وإنما هم أرادوا المبالغة في طاعة الله تعالى والتجرد لعبادته بترك الانشغال بالزواج ونفقـــة الزوجة والأهل، لذلك كانوا يبنون الصوامع وهي البيوت الخفيفة من طين أو من غير ذلك على المواضع المنعزلة عن البلد ليتجردوا لعبادة خالقهم سبحانــــــــــــــــــــــــــــه وتعالى.

فائدة: بعد رفع عيسى عليه السلام إلى السماء بمائتي سنة حُرّف دينــه القويم وحُرِّفت معاني الإنجيل الذي أنزل عليه، ثم عمد هؤلاء المحرفون إلى تحريف ألفاظه فحذفوا منه أغلب الألفاظ، وصار أحدهم يكتب إنجيلاً ويقول: هذا هو الإنجيل الأصلي، حتى كثر عددها وبلغت إلى نحو سبعين كتابًا كلهم باسم الإنجيل المنزل فجمعهم الملك "قُسطنطين" الذي كان فـي الأصل وثنيًا ثم دخل في دين المحرفين وطلب منهم أن يجمعوا أمرهـم، فاتفقوا على أربعة كتب كلها فيها تحريف للإنجيل الأصلي الي أنزل على نبي الله عيسى عليه السلام، ثم أحرقوا بقية الكتب وانقسموا نحو سبعيـن فرقة، قال الله تعالى: {قُلْ يا أهلَ الكتابِ لَسْتُمْ على شيءٍ حتى تُقيمــوا التَّوراةَ والإنجيلَ وما أُنْزِلَ إليكُم مِن ربكُم ولَيَزيدونَ كثيرًا مِنهُم ما أُنزِلَ إليكَ مِن ربِّكَ طُغْيانًا وكُفرًا فلا تَأسَ على القومِ الكافرينَ} [سورة المائدة]. ثم بعد ذلك صار المسلمون من أتباع عيسى يفرون بدينهم إلى الجبــال يعبدون الله تعالى وحده، ومع مرور الأيام قلّوا حتى لم يبق منهم أحد بعد ذلك لا في الجبال ولا في المدن وهذا قبل بعثة سيدنا محمد صلــى الله عليه وسلم. وقد مدح الله تعالى في القرءان الأولين من ترهبوا مـــع التوحيد والإيمان على شريعة عيسى وذم الآخرين الذين قلدوهم على غير ما كانوا عليه في الحقيقة فقال تعالى: {وجَعلنا في قُلوبِ الذينَ اتَّبعوهُ رأفةً ورحمةً ورهبانيَّةً ابتَدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاءَ رِضوانِ اللهِ فمـا رَعَوها حقَّ رِعايتها فآتينا الذينَ ءامنوا منهُم أجرهم وكثيرٌ منهُم فاسقونَ}.

 

قصــــــــــة جريج الراهــــــــــــــــب

 

كان في أمّة عيسى الصالحون الصادقون الذين استقاموا بطاعة الله وحده ومنهم جريج رضي الله عنه، فقد كان جريج من المسلمين الذين هم على شريعة نبي الله عيسى المسيح عليه السلام وكان تقيًا صالحًا يعيش بعيـدًا عن الناس، وكان قد بنى صومعة يعبد الله تعالى فيها، وجاء في قصتـه عليه السلام أن امرأة زانية فاسقة قالت: أنا أفتن جريجًا هذا، فتزينــت وتعرضت له فلمّا رءاها لم يهتمّ بها فقطعت الأمل في فتنته، ثم صادفـت رجلاً راعيًا فتعرضت له فزنى بها فحملت منه ثم لما وضعت حملــها قالت: هذا الولد من جريج، وذهبوا إلى جريج وهدموا له صومعته التـي كان يعبد الله تعالى فيها، وربطوه بحبل وجرُّوه وطافوا به بيــن الناس إهانة له، فقال لهم: أمهلوني حتى أصلي ركعتين فأمهلوه فصلى ركعتين ثم قال للمولود الذي ولدته هذه المرأة: يا غلام من أبوك؟ قال المولـود: الراعي، أنطق الله تعالى الغلام ليبرئ عبده الولي الصالح جريجًا، فعادوا يتمسحون به ويقبلونه ليرضى حيث رأوا له هذه الكرامة العظيمة وهـي أنه أنطق هذا الطفل المولود بإذن الله لتبرئته مما اتهم به، فقالوا له: نبني لك صومعتك من ذهب، فقال لهم جريج: لا، أعيدوها كما كانت، أي من طين، روى هذه القصة البخاري ومسلـــــــــم في صحيحهما.

 

معجزاته عليه الصلاة والسلام وذكــــــر ما ذكره الله من الامتنان

 

من معجزات عيسى غير ما مرَّ احياء الموتى قال الله تعالى: {إذ قالَ اللهُ يا عيسى ابنَ مريمَ اذكُرْ نعمتي عليكَ وعلى والدتكَ إذ أيَّدتُكَ بروحِ القُدُسِ تُكَلِّمُ الناسَ في المهدِ وكهلاً وإذ علَّمتُكَ الكتابَ والحكمةَ والتوراةَ والإنجيلَ وإذ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كهيئةِ الطير بإذني فتنفُخُ فيها فتكونُ طيرًا بإذنــي وتُبرئُ الأكمهَ والأبرصَ بإذني وإذ تُخرجُ الموتى بإذني وإذ كَفَفْتُ بنـي إسرائيلَ عنكَ إذ جِئتَهم بالبيِّناتِ فقالَ الذينَ كفروا منهُم إنْ هذا إلا سحـرٌ مُبينٌ} [سورة المائدة] وقال تعالى: {ويُعَلِّمُهُ الكتابَ والحكمةَ والتــوراةَ والإنجيلَ* ورسولاً إلى بني إسرائيلَ أنِّي قد جِئتُكُم بآيةٍ مِن ربِّكُم أنّــِي أخلُقُ لكُم مِنَ الطِّينِ كهيئةِ الطَّيرِ فأنفُخُ فيهِ فيكونُ طيرًا بإذنِ اللهِ وأبـرئُ الأكمَهَ والأبرصَ وأُحْيِ الموتى بإذن اللهِ وأنَبِّئُكُم بما تأكلونَ وما تَدَّخِرونَ في بُيُوتكم إنَّ في ذلكَ لآيةً لكُم إنْ كُنتُم مؤمنينَ* ومُصَدِّقًا لِما بينَ يـديَّ من التَّوراةِ وَلأُحِلَّ لكُم بعضَ ما حُرِّمَ عليكُم وجِئتُكُم بآيةٍ مِنْ ربِّكُم فاتَّقوا اللهَ وأطيعونِ* إنَّ اللهَ ربِّي ورَبُّكُم فاعبدوهُ هذا صِراطٌ مُستقيمٌ} [سـورة ءال عمـــــــــــــــــــــــــــــران].

أيد الله تبارك وتعالى عيسى ابن مريم بروح القدس وهو جبريل عليــه السلام، وأيده أيضًا بالبينات وهي المعجزات الدالة على صدقه فيما يبلغه عن اله تبارك وتعالى، فكان عليه السلام يمسح على المريض فيشفــى بإذن الله تعالى، ومن هذه المعجزات أيضًا أنه كان يصور من الطين على صورة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله تعالى ومشيئته، ومــن معجزاته أيضًا إحياء الموتى بإذن الله تعالى فكان عليه السلام يقـــول للميت: قم بإذن الله فيقوم بإذن الله، ويُروى أنه أول ما أحيا من الموتـى أنه مر ذات يوم على امرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي فقال لها: ما لـك أيتها المرأة؟ فقالت له: ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها، وإنــــي عاهدت ربي أن لا أبرح من موضعي هذا حتى أذوق ما ذاقت من الموت أو يحييها الله لي فأنظر إليها، فقال لها نبي الله عيسى عليه السلام: أرأيت إن نظرت إليها أراجعة أنت؟ قالت: نعم، فصلى عليه السلام ركعتيــن لله تعالى ثم جاء فجلس عند القبر، فنادى: يا فلانة، قومـــي بإذن الله الرحمن فاخرجي، فتحرك القبر، ثم نادى المرة الثانية فانصدع القبر بإذن الله، ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب، ثـم قال لها عيسى عليه السلام: ما أبطأ بك عني فقالت له: لما جاءتني الصيحـــة الأولى بعث الله لي ملكًا فركّب خَلقي، ثم جاءتني الصيحة الثانية فرجـع إلي روحي [2]، ثم جاءتني الصيحة الثالثة فخفت أنها صيحة القيامــة فشاب رأسي وحاجباي وأشفار عيني من مخافة القيامة، ثم أقبلت علـى أمها فقالت لها: يا أماه ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين؟ يـا أماه اصبري واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا، ثم كلمت نبي الله عيسـى عليه السلام وقالت له: سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون علـيّ كرب الموت فدعا عليه السلام ربه فقبضها إليه واستوت عليـها الأرض فسبحان القادر على كل شيء، ولما بلغ اليهود خبر هذه الحادثـة ازدادوا على عيسى عليــــــــــــــــــــه السلام غضبًا.

ويروى أن ملكًا من ملوك بني إسرائيل مات وحمل على سريره ونعشه، فجاء عيسى عليه السلام فدعا الله عز وجل فاحياه الله عز وجـل، ورأى الناس يومئذٍ أمرًا هائلاً ومنظـــــــــــــــــرًا عجيبًا.

ويروى أنه ممن أحياه عيسى عليه السلام بإذن الله تعالى عازر وكــان صديقًا لعيسى فلما مرض عازر أرسلت أخته إلى عيسى عليه السلام أن عازر يموت فسار إليه عيسى وبينهما ثلاثة أيام فوصل إليه فوجده قــد مات، فأتى قبره فدعا الله تعالى فأحياه الله تعالى وعاش وبقي دهرًا حتى ولد لــــــــــــــــــــــــــــــــه.

ويروى أنه عليه السلام كان يومًا مع أصحابه "الحواريين" يذكـر نوحًا والغرق والسفينة فقال له الحواريون: لو بعثت لنا من شهد ذلك؟ فأتـى عيسى عليه السلام مُرتفعًا وقال: هذا قبر سام بن نوح، ثم دعا الله تعالى فأحياه الله تعالى فقال: قد قامت القيامة؟ فقال له عيسى المسيح عليـــه السلام: لا ولكن دعوت الله فأحياك، ثم سألوه فأخبرهم عن السفينـــة وأمرها ثــــــــــــــــــــــــــم عاد ميتًا.

فائدة: قال العلماء كانت معجزة كل نبي في زمانه بما يناسب أهـل ذلك الزمان فكان الغالب على زمان موسى عليه السلام السحر وتعظيـــم السحرة، فبعث الله تعالى عبده موسى عليه السلام بمعجزة بهــــرت الأبصار وحيّرت كل سحّار، فلما استيقن السحرة أنها معجزة من عنــد العظيم الجبار انقادوا ودخلوا في ديـــــــــــــن الإسلام.

ونبي الله عيسى عليه السلام بعث في زمان يكثر فيه التباهي والتسابق في الحذق والمهارة من الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم بمعجزات لا سبيل لأحد منهم إليها لأنه مؤيد من الله تبارك وتعالى وكانت هــــذه المعجزات دليلاً على صدقه فيما يبلغه عن الله تعالى، فأنى للطبائعــي إبراء الأكمه الذي ولد أعمى، وكذلك الأبرص والمجذوم ومن به مـرض مزمن من دون استعمال أعشاب وعقاقير، وأنى للطبيب أن يحيي الميت من قبره وكما فعل عيسى عليه السلام، فيُعلم بدلالة العقل أن عيسى عليه السلام نبي الله ورسولــــــــــــــــــــــــه.

وكذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعث في زمان الفصحاء والبلغاء في قومه العرب حتى بلغوا في شدة المباهاة بالفصاحة والبلاغة فـــي أشعارهم إلى أن كان المتفوق فيهم يعمل قصيدة فيعلقها في الكعبة ليجـد الشهرة بين العرب لأنهم كانوا يجتمعون في مكة باسم الحج مع أنهم كفار يعبدون الأوثان تقليدًا لأجدادهم منذ أيام إسماعيل عليه السلام، فجاءهـم سيدنا محمد بكتاب أنزله الله عليه عجزوا عن الإتيان بسورة واحدة مـن مثله في الفصاحة والبلاغة، فتحداهم وكان في تحديه ما أخبر الله به فـي القرءان بقوله: {قُلْ لئنِ اجتَمَعَتِ الإنسُ والجنُّ على أن يأتوا بمثلِ هــذا القرءانِ لا يأتونَ بمثلهِ ولوْ كانَ بعضُهم لبعضٍ ظهيرًا} [سورة الإسراء].

قال الله تبارك وتعالى: {لقدْ أرسَلنا رُسُلنا بالبيِّناتِ} [سورة الحديــد] أي بالمعجزات، وهكذا كل نبي قرن الله بدعوته من المعجزات ما هو شاهـد له بصدقه تفريقًا بين النبي وبين المتنبي. وليس القرءان هو المعجــزة الوحيدة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بل له من المعجزات الكثيــر الكثير منها شهادة شجرة دعاها فمشت من منبتها من غير أن تنقلع إليـه وقامت بن يديه فاستشهدها فشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وذلك عند عرضه الإسلام على رجل من العرب فطلب منه شاهدًا علـى نبوته فقال له: هذه الشجرة، وهذا أغرب وأعجب من إحياء الميت بعدما كان حيًا قبل ذلك ثم عاد إلى ما كان عليه بعد موته لأن هذه الشجرة لـم يسبق لها حياة تؤهلها للنطق والمعرفة بشأنــــــــــــــه.

 

بيان أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والســـــــــــــلام

بشّر بالرسول محمد صلى الله عليه وسلــــــــــــــــم

 

يقول الله تبارك وتعالى: {وإذْ قالَ عيسى ابنُ مريمَ يا بني إسرائيلَ إنِّـي رسولُ اللهِ إليكُم مُصَدذِقًا لما بينَ يَدَيَّ من التَّوراةِ ومُبَشِّرًا برسولٍ يأتـي من بعدي اسمُهُ أحمد فلمَّا جاءهُم بالبيِّناتِ قالوا هذا سحرٌ مبينٌ} [سـورة الصــــــــــــــــــــــــــــــــف].

نبي الله عيسى المسيح عليه السلام بشّر برسول ءاخر الزمان وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كما بشر به الأنبياء السابقون من قبله فذكروا صفاته كما ذكرت في التوراة والإنجيل وذلك ليعرفه بنو إسرائيــــل ويتابعوه، ولما كان نبيُّ الله عيسى ابن مريم عليهما السلام هو ءاخــر أنبياء بني إسرائيل قام عليه السلام في بني إسرائيل خطيبًا فأخبرهـم أن النبوة قد انقطعت عنهم وأنها بعده في النبي العربي الأمّي خاتم الأنبيـاء وأفضلهم على الإطلاق وهو أحمد وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم الذي هو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهم السـلام.

يقول الله تبارك وتعالى في حق هؤلاء الذين اتّبعوا نبيه ورسوله محمـدًا صلى الله عليه وسلم وءامنوا به: {الذينَ يتَّبعونَ الرَّسولَ النبيَّ الأمِّيَّ الذي يجِدونَهُ مكتوبًا عندهُم في التَّوراةِ والإنجيلِ يأمُرُهم بالمعروفِ وينهاهـم عنِ المُنكرِ ويُحِلُّ لهُم الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عليهم الخبائثَ ويضعُ عنهُــــم إصرَهُم والأغلالَ التي كانت عليهم فالذينَ ءامنوا بهِ وعزَّرُوهُ ونصـروهُ واتَّبعوا النُّورَ الذي أنزِلَ معهُ أولئكَ هُمُ المُفلِحونَ} [سورة الأعــراف].

روى البيهقي في الدلائل وغيره عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنــه قال: "دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ابن مريم ورأت أمي أنه خـرج منها نور أضاءت له قصور الشام"، قوله: "دعوة أبي إبراهيم" وذلـك أن إبراهيم لما بنى الكعبة قال: {ربَّنا وابعَثْ فيهم رسولاً مِنهُم} [ســـورة البقــــــــــــــــــــــــــــــــرة].

فائدة: تقدم أنه من جملة وصايا عيسى المسيح عليه السلام لأتباعه أنـه قال لهم: إنه يأتي بعدي نبي اسمه أحمد فآمنوا به واتبعوه إذا ظهر، وكان ممن سمع وصية عيسى عليه السلام واحد من الجن المؤمنين، فهذا الجني المؤمن بلّغ خبر هذه الوصية لأربعة من أهل اليمن كانوا قد خرجوا من بلادهم ونزلوا بأرض في الجزيرة العربية، وذلك قبل أن يظهر اســـمُ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا ظهورًا تامًا، وكانوا قـد أدركهم المبيت بالبرية ءاخر الليل فسمع أخدهم وهو الجُعد بن قيـــس صوتَ هاتفٍ – أي صوت حني من غير أن يرى شخصه- وهو يقـول:

 

ألا أيها الرَّكبُ المُعَرِّسُ بلّغوا *** إذا ما وقفتم بالحطيم وزمــــزمًا

محمدًا المبعوث منا تحيــة *** تُشَيّعه من حيث سارَ ويمّمـــــا

وقولوا له إنا لدينك شيعــة *** بذلك أوصانا المسيحُ ابنُ مـــريما

 

فلما دخل الجعد بن قيس إلى مكة صار يبحث ويسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى دلَّ عليه، فلما اجتمع بالرسول صلى الله عليـــه وسلم عرفه وءامن به وأسلــــــــــــــــــــــــم.

 

سيرته عليه السلام وزهده وورعـــــــــه وشيء من أوصافه

ولماذا سُمّي بالمسيــــــــــــــــــــــــــح

 

قال تعالى: {ما المسيحُ ابنُ مريمَ إلا رسولٌ قد خَلَتْ مِن قبلِــهِ الرُّسُلُ} [سورة المائــــــــــــــــــــــــــــدة].

كان نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام جميل الشكل والصوت ربعة أي ليس طويلاً ولا قصيرًا، ءادم اللون أي ذا سمرة خفيفة، سبط الشعـر أي شعره متسلسل ناعم، وكان من سيرته عليه السلام أنه كان زاهدًا لا يُبالي بنعيم الدنيا وملذاتها الفانية بل كان قلبه متعلقًا بالعمل بالآخرة وبطاعة الله تعالى، وكان عليه السلام يلبس الشَّعر ويأكل من ورق الشجر من نحـو الملوخية والهندباء من غير طبخ، وكان لا يدخر عنده شيئًا ولكن ينفقـه على الفقراء والمساكين والمحتاجين، لا يأوي إلى منزل ولا أهــل ولا مال، فهو عليه الصلاة والسلام لم يكن يتخذ منزلاً يأوي إليه إنما كــان يبيت وينام أينما يدركه المســـــــــــــــــــــاء.

وكان عليه السلام ورعًا كثير البكاء من خشية الله تعالى، متوكلاً علـى مولاه، كثير ثقة القلب بخالقه ورازقه، فكان عليه السلام يتحرى الطعـام الحلال، وقد قال بعضهم: إنه كان يأكل من غزل أمه مريم عليها السلام، وقد رُوي عنه أنه خرج يومًا على أصحابه وعليه جبة صوف وسـروال صغير يستر عورته وكان حافيًا باكيًا شَعْثًا مصفر اللون من الجوع يابس الشفتين من العطش فقال لأصحابه: السلام عليكم يا بني إسرائيل أنا الذي أنزلت الدنيا منزلتها بإذن الله ولا عجب ولا فخر، ثم قال لهم: أتـدرون أين بيتي؟ قالوا: أين بيتك؟ فقال: بيتي المساجد وطي الماء، وإدامـــي الجوع، وسراجي القمر بالليل، وصلاتي في الشتاء مشارق الشمــس، وريحاني بُقول الأرض، ولباسي الصوف، وشعاري خوف رب العـزة، وجُلسائي الزّمنى والمساكين، أصبح وليس لي شيء، وأمسي وليس لـي شيء، وأنا طيب النفس غير مكترث فمن أغنى مني وأربــــــح؟.

وقد كان عليه السلام شديد التوكل على الله تعالى، روى أبو داود فــي كتاب القدر بالإسناد عن طاوس قال: لقي عيسى ابن مريم إبليس فقـال: أما علمت أنه لن يصيبك إلا ما كتب لك، قال إبليس: فأوف بذروة هـذا الجبل فتردى منه إلى أسفل فانظر هل تعيش أم لا؟ فقال عيسى: أمــا علمت أن الله تعالى قال لا يجبرني عبدي فإني أفعل ما شئـــــت.

وسُمّي نبي الله عيسى عليه السلام بالمسيح لكثرة سياحتــه في الأرض ليعلّم الناس دين الله وشرعه ويدعوهم إلى عبادة الله وحده، وقيل: إنــه سمي بالمسيح لأنه كان يمسح على المريض الأبرص والأعمى وغيرهما فيشفى بإذن الله تعالى ومشيئتــــــــــــــــــــه.

 

ذكرُ خبر المائـــــــــــــــــدة التي نزلت من السماء

 

أنزل الله تبارك وتعالى سورة المائدة وحيًا على رسوله صلى الله عليـه وسلم وسُمّيت هذه السورة سورة المائدة لأنها تتضمن قصة المائدة التـي أنزلها الله تبارك وتعالى من السماء عندما سأله عيسى ابن مريم عليــه السلام إنزالها من السماء كما طلب منه أصحابه وتلاميذه الحواريــون، ومضمون خبر وقصة هذه المائدة أن عيسى ابن مريم عليه السلام أمـر الحواريين بصيام ثلاثين يومًا فلما أتموها سألوا عيسى عليه السلام إنزال مائدة من السماء عليهم ليأكلوا منها وتطمئن بذلك قلوبهم أن الله تبـارك وتعالى قد تقبل صيامهم وتكون لهم عيدًا يفطرون عليها يوم فطرهــم، وتكون كافية لأولهم وءاخرهم ولغنيهم وفقيرهم، ولكنّ عيسى عليه السلام وعظهم في ذلك وخاف عليهم ألا يقوموا بشكرها، فأبوا عليه إلا أن يسأل لهم ذلك من الله تبارك وتعالى، فلما ألحوا عليه في ذلك قام إلى مُصـلاه ولبس ثيلبًا من شعر وأطرق رأسه وأسبل عينيه بالبكاء ثم أخذ يتضـرع إلى الله تعالى في الدعاء والسؤال أن يجابوا إلى ما طلبوا، فاستجـاب الله عز وجل دعاءه فأنزل سبحانه المائدة من السماء والناس ينظرون إليـها وهي تنحدر بين غمامتين، وجعلت تدنو قليلاً قليلاً وكلما دنت منهم يسأل عيسى المسيح عليه السلام أن يجعلها رحمة لا نقمة وأن يجعلها سلامًـا وبركة، فلم تزل تدنو حتى استقرت بين يدي عيسى عليه السلام وهــي مغطاة بمنديل، فقام عيسى عليه السلام يكشف عنها وهو يقول: "بسم الله خير الرازقين" فإذا عليها من الطعام سبعة من الحيتان وسبعة أرغفــة وقيل: كان عليها خلّ ورمان وثمار ولها رائحة عظيمة جدًا، ثم أمرهـم نبيهم عيسى عليه السلام بالأكل منها، فقالوا له: لا نأكل حتى تأكل، فلما أبوا أن يبدءوا بالأكل منها أمر عليه السلام الفقراء والمحاويج والمرضى وأصحاب العاهات وكانوا قريبًا من الألف وثلاثمائة أن يأكلوا من هـذه المائدة، فأكلوا منها فبرأ كل من به عاهة أو ءافة أو مرض مزمـــن واستغنى الفقراء وصاروا أغنياء، فندم الناس الذين لم يأكلوا منها لمــا رأوا من إصلاح حال أولئك الذين أكلوا ثم صعدت المائدة وهم ينظـرون إليها حتى توارت عن أعينهم، وقيل: إن هذه المائدة كانت تنزل كل يـوم مرة فيأكل الناس منها، فيأكل ءاخرهم كما يأكل أولهم حتى قيل: إنه كان يأكل منها كل يوم سبعة ءالاف شخــــــــــــــــص.

ثم أمر الله تبارك وتعالى عيسى عليه السلام أن يقصرها على الفقــراء والمحتاجين دون الأغنياء، فشق ذلك على كثير من الناس وتكلم منافقوهم في ذلك فرفعت ومُسخ الذين تكلموا في ذلك من المنافقين خنازير. وقـد رُوي عن الصحابي الجليل عمار بن ياسر أنه قال: "نزلت المائدة مــن السماء خبز ولحم وأمروا ألا يخونوا ولا يدخروا ولا رفعوا لغد، فخانـوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير"، يقول الله تبارك وتعالـى: {إذ قالَ الحواريونَ يا عيسى ابنَ مريمَ هل يسطيعُ ربُّكَ أن يُنزِلَ علينا مائـدةً منَ السماءِ قالَ اتَّقوا اللهَ إنْ كُنتُم مؤمنينَ* قالوا نُريدُ أن نأكُلَ منـــها وتَطْمَئِنَّ قلوبُنا ونعلمَ أن قد صَدَقْتَنا ونَكونَ مِنَ الشاهدينَ* قالَ عيسى ابنُ مريمَ اللهُمَّ ربَّنا أنْزِلْ علينا مائدةً مِنَ السماءِ تكونُ لنا عيدًا لأوَّلِنا وءاخِرنا وءايةً منكَ وارزقنا وأنتَ خيرُ الرَّازقينَ* قال اللهُ إنِّي مُنَزِّلُها عليكم فمن يكفُرْ بعدُ مِنكُم فإنِّي أعَذِّبُهُ عذابًا لا أعذبُهُ أحدًا مِنَ العالمينَ} [ســـورة المائــــــــــــــــــــــــــــــــدة].

ومعنى قوله تعالى حكاية عن أصحاب عيسى عليه السلام: {هل يستطيعُ ربُّكَ أن يُنَزِّلَ علينا مائدةً مِنَ السماءِ} أي هل يستجيب ربك لك إن طلبت منه هذا الطلب بدليل هذه القراءة الواردة لهذه الآية وهي: {هلْ تستطيـعُ ربَّكَ} قال الفراء معناه: هل تقدر أن تسأل ربك، فلا يجوز أن يُتوهـم أن الحواريين شكّوا في قدرة الله تعالى على إنزال هذه المائدة من السمـاء، فالله تعالى قادر على كل شيء لا يعجزه شيء، وإنما كما يقول الإنسـان لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم مهي وهو يعلم أنه مستطيـــــــع.

 

من أقوال عيسى عليه السلام وحكمــــــــــــــــــه

 

روي أن عيسى ابن مريم عليهما السلام وقف هو وأصحابه علــى قبر فجعل أصحابه يذكرون القبر وضيقه فقال لهم عليه السلام: قد كنتم فيـما هو أضيق منه في أرحام أمهاتكم، فإذا أحب الله أن يوسع وسّـــــع.

وورد أن عيسى عليه السلام قال في أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم: "علماء حلماء بررة أتقياء كأنهم من الفقه أنبيــــــــــــاء".

وورد أن عيسى المسيح عليه السلام قال يومًا لتلاميذه الحواريين: كلـوا خبز الشعير واشربوا الماء القراح واخرجوا من الدنيا سالمين ءامنيـن، بحق ما أقول لكم إنّ حلاوة الدنيا مرارة الآخرة وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخــــــــــــــــــــــــــــــــرة.

وورد أنه قيل له: من أشدُّ الناس فتنة؟ فقال: زلة العالم، فإن العالم إذا زلّ يزل بزلته عالم كثيـــــــــــــــــــــــــر.

وروي أنه عليه السلام قام في بني إسرائيل فقال: يا معشر الحواريين، لا تحدثوا بالحِكم غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهــــم.

ومن حكمه عليه السلام أنه قال: لا تطرحوا اللؤلؤ إلى الخنازيــر فإن الخنزير لا تصنع باللؤلؤ شيئًا، ولا تعطوا الحكمة من لا يريــــدها.

وروي عنه عليه السلام في ذم علماء السوء الذين لا يعملون بما يعلمون: يا علماء السوء جعلتم الدنيا على رءوسكم والآخرة تحت أقدامكم، قولكـم شفاء وعلمكم داء، مثلكم مثل شجرة الدُّفلى نبت مر قاتل تعجب مـــن رءاها وتقتل من أكلـــــــــــــــــــــــــها.

وروي عنه أنه قال: طوبى لمن بكى من ذكر خطيئته وحفظ لسانـــه ووسعه بيتــــــــــــــــــــــــــــــه.

 

ذكر مكيدة اليهود ورفــــع عيسى عليه السلام إلى السماء وبيان أنه

لم يقتل ولم يصلـــــــــــــــــــــــــــب

 

قال الله تبارك وتعالى: {فلمَّا أحَسَّ عيسى منهُم الكُفـرَ قالَ مَنْ أنصاري إلى اللهِ قالَ الحَواريُّونَ نحنُ أنصارُ اللهِ ءامنَّا باللهِ واشهَدْ بأنَّا مُسلمـونَ* ربَّنا ءامَنَّا بما أنزَلْتَ واتَّبَعْنا الرَّسولَ فاكْتُبنا مَعَ الشَّاهدينَ* ومَكروا ومكرَ اللهُ واللهُ خيرُ الماكرينَ} [سورة ءال عمــــــــــــــران].

استمر أكثر بني إسرائيل على كفرهم وضلالهم وءامن بعيسى عليـــه السلام القليل، وكان منهم طائفة صالحة كانوا له أنصارًا وأعوانًا قامـوا بمتابعته ونصرته وإعانته على نشر دين الإسلام الحق الذي أرسلـه الله تبارك وتعالى ليدعو إليه، ولما أخذت دعوته تنتشر ويكثر أتباعــــه ومناصروه حسده اليهود وتآمروا عليه وأخذوا يدبرون مكيدة لقتلـــه والتخلص منه، فوشوا به إلى بعض ملوك الزمان وعزموا على قتلــه وصلبه فأنقذه الله تبارك وتعالى من مكيدتهم ومكرهم ورفعه إلى السماء من بين أظهرهم وألقى شبهه على أحد من أصحابه فأخذوه فقتلــــوه وصلبوه وهم يعتقدونه عيسى عليه السلام وهم في ذلك غالطون، وسلـم لهم كثير من النصارى فيما ادعوه وكلا الفريقين في ذلك مخطئون، قال الله تبارك وتعالى في الرد على اليهود الذين زعموا أنهم قتلوا نبــي الله عيسى عليه السلام: {وقولِهِم إنَّا قتَلنا المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ رسـولَ اللهِ وما قتلوهُ وما صلبوهُ ولكن شُبِّهَ لهُم وإنَّ الذينَ اختَلفوا فيهِ لفي شَكٍّ منـهُ ما لهُم بهِ مِنْ علمٍ إلا اتِّباعَ الظَّنِّ وما قتلوهُ يقينا* بل رفعهُ اللهُ إليهِ وكانَ اللهُ عزيزًا حكيمًا} [سورة النســـــــــــــــــــاء].

وورد في قصة رفع نبي الله عيسى عليه السلام إلى السماء أنه قبـل أن يدخل اليهود على المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام كان عليـه السلام مع اثني عشر من أصحابه وتلاميذه في بيت فقال لهم: إن منكم من يكفر بي بعد أن ءامن، ثم قال لهم: أيكم يُلقى عليه شبهي ويُقتل مكاني فيكـون رفيقي في الجنة؟ فقام شاب أحدثهم سنًا فقال: أنا، قال: اجلس، ثم أعـاد عيسى عليه السلام مقالته فعاد الشاب وقال: أنا، ثم أعاد عيسى عليــه السلام مقالته فعاد الشاب الثالثة، فقال له عليه السلام: أنت هو، وألقى الله سبحانه وتعالى شبه عيسى عليه السلام على هذا الشاب، فدخل اليهــود البيت وأخذوا الشاب فقتل وصلب بعد أن رفع عيسى عليه السلام مــن روزنة في البيت – وهي نافذة في أعلى الحائط- إلى السماء وأهل البيت ينظرون. ثم افترقوا فرقًا، فرقة قالت: هو الله، وفرقة قالت: هو ابن الله، وفرقة قالت: هو عبد الله ورسوله وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الفرقتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامسًا حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلــــــــــــــــــــــــــــم.

قال الله تبارك وتعالى: {ومَكروا ومكرَ اللهُ واللهُ خيرُ الماكرينَ* إذْ قـالَ اللهُ يا عيسى إنِّي مُتَوَفِّيكَ ورافعُكَ إليَّ ومُطَهِّرُكَ مِنَ الذينَ كَفروا وجاعلُ الذينَ اتَّبَعوكَ فوقَ الذينَ كفروا إلى يومِ القيامةِ ثمَّ إليَّ مَرْجِعُكُم فأحْكُــمُ بينَكُم فيما كُنتُم فيهِ تَختلِفونَ} [سورة ءال عمران]. ومعنى قول الله تعالى: {مُتَوَفِّيكَ} أي قابظك إلى السماء وأنت حيٌّ يقظان، ويجوز أن يفسـر بأن هذا من باب المقدم والمؤخر فكأن السياق إني رافعك ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك أي مميتك، فعلى هذا التفسير وهو تفسير ابن عباس يكون متوفيك معناه مميتـــــــــــــــــــــــــك.

وقوله تعالى: {وجاعلُ الذينَ اتَّبعوكَ فوقَ الذينَ كفروا} أي جاعل مــن اتبعك على الإسلام والتوحيد وهم من بقي بعد رفعه إلى السماء علــى الإسلام ثم بعد انقراضهم أمة محمد لأن هؤلاء هم متبعوا عيسى على ما جاء به من توحيد الله وسائر أصول العقيدة والأحكام التي اتفقت عليهـا شرائع الأنبياء فإنهم فوق الكافرين من حيث المعنى والحكم فإن من معه الحق فهو فوق غيره، وفي هذه الآية دلالة على أن أمة محمد ءاخر الأمم المسلمة أتباع الأنبياء في الإسلام والتوحيد وأنهم يبقون إلى نهاية الدنيـا.

 

بيان نزول عيسى المسيح عليــــه السلام من السماء قبل يوم القيامة

وأنه من علامات الساعــــــــــــــــــــــــة

 

ليعلم أنه ورد في الشريعة أن من علامات قرب قيام الساعة نزول عيسى عليه السلام من السماء إلى الأرض، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ قوله تعالى: {وإنَّهُ لَعِلمٌ للساعةِ} [سورة الزخرف] فقال: "نزول عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة". فأحاديث نزوله عليه السلام من السماء مشهورة قريبة من التواتر، وقد ثبت عن النبـي صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام لما ينزل من السماء ينــزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، ثم يعيش في الأرض أربعين سنــة يحكم خلالها بشريعة القرءان شريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلـم، ويعم بعد نزول عيسى عليه السلام الأرض الإسلام والأمن والســـلام ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب، ويكسر عليه السلام عنــد نزوله الصليب ويقتل الخنازير في بقاع الأرض، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلاً فيكسر الصليب ويقتــــل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكـــون السجدة خيرًا من الدنيا وما فيها" رواه البخاري ومسلم وغيــــرهما.

وقد ورد أنه عليه السلام يسلك فج الرَّوحاء حاجًا أو معتمرًا ويقصد قبر النبي فيسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم فيرد الرسول عليه السلام، ويقيم في الأرض حاكمًا أربعين سنة ثم يموت فيدفن في الحجرة النبويـة قرب قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيـــــــــــــه.

روى الحاكم في المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليهبطـنَّ عيسى ابن مريم حكمًا مقسطًا وليسلكنَّ فجًّا حاجًّا أو معتمرًا وليأتينَّ قبري حتى يسلّم عليّ ولأردنَّ عليـــــــــــــــــــــه".

قال تعالى: {وإن منْ أهلِ الكتابِ إلا لَيُؤمِنَنَّ بهِ قبلَ موتِهِ ويومَ القيامــةِ يكونُ عليهم شهيدًا} [سورة النساء]، وقال تعالى: {وإنَّهُ لَعِلمٌ للساعةِ فـلا تَمْتَرُنَّ بها واتَّبِعونِ هذا صراطٌ مستقيمٌ} [سورة الزخـــــــرف].

 

قصة وخبــــــــــــــــــــــر أصحاب الكهف

 

قال تعالى:{ أمْ حَسِبْتَ أنَّ أصحابَ الكهفِ والرَّقيمِ كانوا من ءاياتِنا عَجَبًا* إذْ أوى الفِتيةُ إلى الكهفِ فقالوا ربَّنا ءاتِنا مِن لدُنكَ رحمةً وهَيِّئ لنا مِـن أمرنا رَشَدًا* فَضَربنا على ءاذانِهم في الكهفِ سنينَ عددًا* ثمَّ بعَثناهُــم لِنعلمَ أيُّ الحِزبَينِ أحصى لِما لَبِثوا أمَدًا* نحنُ نقُصُّ عليكَ نبأهُم بالحـقِّ إنَّهُم فنيةٌ ءامنوا بربِّهم وزدناهُم هُدًى* وربطنا على قُلوبهم إذا قامــوا فقالوا ربُّنا ربُّ السمواتِ والأرضِ لنْ ندعُوَاْ من دونهِ إلهًا لقد قُلنــا إذًا شَططًا* هؤلاءِ قومنا اتَّخذوا من دونِهِ ءالهةً لولا يأتونَ عليهم بسُلطــانٍ بَيّنٍ فمَنْ أظلمُ مِمَّنِ افترى على اللهِ كَذِبًا* وإذْ اعتَزلتموهُم وما يعبدونَ إلا اللهَ فأْوُا إلى الكهفِ يَنشُرْ لكُم ربُّكُم مِنْ رحمَتِهِ ويُهَيِّئ لكُم مِنْ أمركُــم مِرفقًا* وترى الشَّمسَ إذا طَلَعَتْ تزاوَرُ عن كهفِهِم ذاتَ اليميـــنِ وإذا غربَتْ تقرِضُهُم ذاتَ الشِّمالِ وهُم في فَجْوةٍ منهُ ذلكَ مِنْ ءاياتِ اللهِ مَـن يهدِ اللهُ فهوَ المُهتدِ ومن يُضلِلْ فلَن تَجِدَ لهُ وليًّا مرشِدًا* وتحسَبُهُم أيقاظًا وهُمْ رُقودٌ ونُقَلِّبُهُم ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمالِ وكلبُهُم باسطٌ ذِراعَيــــهِ بالوَصيدِ لو اطَّلَعْتَ عليهم لَوَلَّيتَ منهُم فِرارًا ولَمُلِئتَ منهُم رُعبًا* وكذلكَ بَعَثناهُم ليَتَساءلوا بينهُم قالَ قائلٌ مِنهُم كَمْ لَبِثتُم قالوا لبِثنا يومًا أو بعـضَ يومٍ قالوا رَبُّكُم أعلمُ بما لَبِثتُم فابعثوا أحدَكُم بِوَرِقِكُم هذهِ إلى المدينـــةِ فلينظُرْ أيُّها أزْكى طعامًا فليأتِكُم برزقٍ منهُ ولْيَتَلَطَّفْ ولا يُشعِرَنَ بكُــم أبدًا* وكذلكَ أعْثرنا عليهم ليعلموا أنَّ وعْدَ اللهِ حقٌّ وأنَّ الساعةََ لا ريـبَ فيها إذْ يَتَنازعونَ بينهُم أمرهُم فقالوا ابنُوا عليهم بُنيانًا ربُّهُم أعلمُ بهم قالَ الذينَ غَلَبوا على أمرهم لَنَتَّخِذَنَّ عليهم مسجدًا* سيقولون ثلاثةٌ رابِعُهــم كلبُهم ويقولونَ خمسةٌ سادِسُهُم كلبُهم رَجْما بالغيبِ ويقولونَ سبعةٌ وثامِنهم كلبُهم قُلْ ربي أعلمُ بعِدَّتِهِم ما يعْلَمُهُم إلا قليلٌ فلا تُمارِ فيهم إلا مِــراءً ظاهِرًا ولا تَسْتَفْتِ فيهم منهُم أحدًا} [ســـــــــــورة الكهف].

كان أصحاب الكهف فتية مسلمين من أتباع عيسى ابن مريم ءامنوا بربهم كما وصفهم الله عز وجل في القرءان المجيد، والرقيم هو الكتاب الـذي كان الفتية كتبوه في لوح وجعلوه في صندوق خلفوه عندهم، أما عــدد الفتية فقيل سبعة وثامنهم كلبهم، وقيل: كان عددهم ثمانية وتاسعهم كلبهم، والله أعلم بعدتهـــــــــــــــــــــــــــم.

وكانوا من قوم يعبدون الأوثان من الروم فهداهم الله تعالى للإســـلام وكانت شريعتهم شريعة عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، وكــان ملكهم كافرًا يقال له "دقينوس" يعبد الأصنام في قرية يقال لها "أفنيـوس" فبلغه عن الفتية مخالفتهم إياه في دينه فطلبهم فهربوا منه فرارًا بدينهــم حتى صاروا إلى جبل لهم يقال له: "نيحلوس" فدخلوا كهفًا فيه فقالــوا: نبيت ههنا الليلة ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم، فضرب علــــى ءاذانهم، فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلـــوا الكهف، فكلما أراد رجل أن يدخل أرعب فلم يطق أحد منهم أن يدخـل، فقال قائل: أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم، قال: بلى، قال: فابن عليهم باب الكهف فدعهم فيه يموتوا عطشًا وجوعًا ففعل الملــــــــك.

فغبروا بعدما بُني عليهم باب الكهف زمانًا بعد زمان، ثم إن راعيًا أدركه المطر عند الكهف، فقال: لو فتحت هذا الكهف فأدخلته غنمي من المطر، فلم يزل يعالجه حتى فتحه، وردّ الله تعالى إليهم أرواحهم في أجسادهم من الغد حتى أصبحوا، فبعثوا أحدهم بورِق – دراهم فضة مضروبـــة- ليشتري لهم طعامًا فكلما أتى باب مدينتهم رأى شيئًا ينكره حتى دخــل على رجل، فقال له: بعني بهذه الدراهم طعامًا، قال: ومن أين لك هــذه الدراهم! قال: خرجت وأصحابًا لي أمس فآوانا الليل حتى أصبحـــوا فأرسلوني فقال: هذه الدراهم كانت على عهد الملك فلان، فأنى لك بـها! فرفعه إلى الملك وكان ملكًا صالحًا فقال: من أين لك هذه الورِق؟ قـال: خرجت أنا وأصحابًا لي أمس حتى أدركنا الليل في كهف كذا وكذا، ثـم أمروني أن أشتري لهم طعامًا، قال له: وأين أصحابك؟ قال: في الكهف، قال: فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف، فقال: دعوني أدخل إلــــى أصحابي قبلكم، فلما رأوه ودنا منهم ضُرب على أذنه وءاذانهم، فجعلـوا كلما دخل رجل أرعب، فلم يقدروا على أن يدخلوا إليهم فبنوا عندهــم مسجدًا يصلون فيــــــــــــــــــــــــــه.

 

 

الهوامـــــــــــــــــــــــــــــــش:

 

[1] معنى {فنفخنا فيه من روحنا} أي أمرنا الملك جبريل فنفــخ روح عيسى في فتحة قميص مريم، ومعنى "من روحنا" أي الروح التي هـي مشرفة عندنا ومطهرة، فهذه الإضافة إضافة الملك والتشريف، وليسـت إضافة الجزئية لاستحالتها في حق الله عز وجــــــــــــل.

[2] المراد بقوله: "روحي" أي قوتــــــــــــــــــي.

 

[ذِكْرُ نَسَبِ] النَّبِيِّ صلى اللهُ عَليهِ وسَلَّم

هَوَ: محمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ بنِ عبدِ الْمُطَّلِبِ بنِ هاشِمِ بنِ عبدِ مَنافِ بنِ قُصَيِّ بنِ كِلابِ بنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيِّ بنِ غالبِ بنِ فِهْرِ بنِ مالكِ بنِ النَّضْرِ بنِ كِنانَةَ بنِ خُزَيْمَةَ بنِ مُدْرِكَةَ بنِ إِلْياسَ بنِ مُضَرَ بنِ نِزَارِ بنِ مَعَدِّ بنِ عَدْنَانَ.

هذا هوَ الْمُتَّفَقَ عليهِ، وفِيما بَعْدَ عَدْنانَ إلى ءادَمَ خِلافٌ كثيرٌ.

وَاُمُّهُ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ءامِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بنِ عَبْدِ مَنَافِ بنِ زُهْرَةَ بنِ كِلابِ ابنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيٍّ.

 

[مَوْلِدُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ]

وُلِدَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يومَ الاثنينِ في شَهْرِ رَبيعٍ الأَوَّلِ مِنْ عامِ الفيلِ، قيلَ : ثانِيْهِ، وقيلَ: ثالِثُهُ، وقيلَ: ثاني عَشَرِهِ، وقيلَ غَيْرُ ذلك.

وكانت قَدْ حَمَلَتْ بِهِ أُمُّهُ في أيامِ التَّشْريقِ عِنْدَ الجَمْرَةِ الوُسطى، وقيلَ غيرُ ذلك.

وَلَيْلَةُ مِيلادِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسلامُ اضْطَرَبَ إيْوَانُ كِسْرَى حَتَّى سُمِعَ صَوْتَهُ، وَسَقَطَتْ مِنْهُ أرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً، وَخَمَدَتْ نارُ فارِسٍ وَلَمْ تَخْمُدْ قَبْلَ ذلكَ بِأَلْفِ عامٍ، وغاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَة.

 

[رَضَاعُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم]

وَأرْضَعَتْهُ عَلَيهِ الصلاةُ والسلام حَلِيْمَةُ بنتُ أبي ذُؤَيْبٍ الهُذَلِيَّةُ، وعندَها شُقَّ صَدْرُهُ وَمُلِئَ حِكْمَةً وإِيْمَانًا بَعْدَ أَنِ اسْتُخْرِجَ حَظُّ الشَّيْطانِ مِنْهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.

وَأَرْضَعَتْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أيضًا ثُوَيْبِيَةُ الأَسْلَمِيَّةُ جارِيَةُ أبي لَهَبٍ.

وَحَضَنَتْهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أُمُّ أَيْمَنَ بَرَكَةُ الحَبَشِيَّةُ وَكانَ وَرِثَها مِن أبِيْهِ، فَلَمَّا كَبِرَ أَعْتَقَها وَزَوَّجَها زَيْدَ بنَ حارِثَةَ.

[نَشْأَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ]

وَتُوُفِّيَ أُبُوهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَهُوَ حَمْلٌ، وَقيلَ: وَلَهُ شَهْرَانِ، وقِيْلَ: سَبْعَةٌ، وَقِيْلَ: ماتَ أُبُوهُ وَلَهُ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا.

وماتَتْ أُمُّهُ وَهُوَ ابنُ أرْبَعِ سِنِيْنَ، وَقِيْلَ: سِتِّ سَنَوَاتٍ.

وَكَفَلَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ.

فَلَمَّا بَلَغَ ثَمانِي سِنِتنَ وَشَهْرَيْنِ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ تُوُفِّيَ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَوَلِيَهُ عَمُّهُ أبو طالِبٍ.

وَلَمَّا بَلَغَ اثْنَتَي عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهْرَيْنِ وعَشَرَةَ أيَّامٍ خَرَجَ مَعَ عَمِّهِ أبي طالِبٍ إلى الشَّامِ، فَلَمَّا بَلَغَ بُصْرَى رَآهُ بَحِيرَا الرَّاهِبُ، فَعَرَفَهُ بِصِفَتِهِ، فَجاءَهُ وَأَخَذَ بِيَدِهِ، وقالَ: هذا رَسُولُ رَبِّ العالَمِينَ يَبْعَثُهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ، إِنَّكُم حِينَ أَقْبَلْتُم مِنَ العَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ حَجَرٌ وَلا شَجَرٌ إلَّا خَرَّ ساجِدًا وَلا يَسْجُدانِ إِلَّا لِنَبِيٍّ، وإِنَّا نَجِدُهُ في كُتُبِنا مَوْصًوفًا، وعِنْدَ مَن تَقَدَّمَنا مَعْرُفًا، ثُمَّ قالَ لأَبي طالِبٍ: لَئِنْ قَدِمْتَ بهِ الشَّامَ لَيَقْتُلَنَّهُ اليَهُودُ. فَرَدَّهُ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْهُم.

ثُمَّ خَرَجَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَرَّةً ثانِيَةً إلى الشَّامِ مَعَ مَيْسَرَةَ غُلامِ خَديجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها في تِجارَةٍ لَهَا قَبْلَ أَن يَتَزَوَّجَها، فَلَمَّا قَدِمَ الشَّامَ نَزَلَ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا صَوْمَعَةِ راهِبٍ، فقالَ الرَّاهِبُ: ما نَزَلَ تَحْتَ هذِهِ الشَّجَرَةِ قَطُّ إِلَّا نَبِيٌّ، وَكانَ مَيْسَرَةُ يَقولُ: إذا كانَتِ الهَاجِرَةُ وَاشْتَدَّ الحَرُّ نَزَلَ مَلَكانِ مِنَ السَّماءِ أَنْظُرُهُما يُظِلَّانِهِ.

وَلَمَّا رَجَعَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْ سَفَرِهِ ذلكَ تَزَوَّجَ خَدِيْجَةَ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وعُمُرُهُ خَمْسٌ وعِشْرُونَ سَنَةً وشَهْرانِ وَعَشَرَةُ أيَّامٍ، وقِيلَ غَيْرُ ذلكَ.

وَلَمَّا بَلَغَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ خَمْسًا وثَلاثِيْنَ سَنَةً شَهِدَ بُنْيانَ الكَعْبَةَ، وَوَضَعَ الحَجَرَ الأَسْوَدَ بِيَدِهِ.

 

[بِعْثَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ]

وَلَمَّا بَلَغَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَرْبَعِيْنَ سَنَةً وَيَوْمًا ابْتَعَثَهُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى لِلْعالَمِيْنَ بَشِيْرًا وَنَذِيْرًا، وأتاهُ جِبْرِيْلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بالوَحْيِ مِنْ رَبِّ العالَمِيْنَ بِغارِ حِرَاءٍ، فقالَ: اقْرَأ، فقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: "مَا أَنا بِقَارِئ"، قالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: فَأخَذَني فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أرْسَلَني، فقالَ: اقْرَأ، فَقُلْتُ: "مَا أَنا بِقارِئ"، فقالَ لِي في الثالِثَةِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}.

وَكَانَ مَبْدَأُ النُّبُوَّةِ فِيما ذُكِرَ يَوْمَ الاثنَيْنِ ثامِنَ شَهْرِ رَبِيعٍ الأوَّلِ.

ثُمَّ حاضَرَهُ أَهْلُ مَكَّةَ في الشِّعْبِ، فأقامَ مَحْصُورًا دُونَ الثَّلاثِ سِنِينَ هُوَ وأَهْلُ بَيْتِهِ، وَخَرَجَ مِنَ الحِصَارِ وَلَهُ تِسْعٌ وأرْبَعُونَ سَنَةً.

وَبَعْدَ ذَلِكَ بِثَمانِيَةِ أَشْهُرٍ وَواحِدٍ وعِشْرِيْنَ يَوْمًا ماتَ عَمُّهُ أبو طالِبٍ وَماتَت خَدِيْجَةُ بَعْدَ ابي طالِبٍ بِثَلَاثَةِ أيَّامٍ.

وَلَمَّا بَلَغَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ خَمْسِيْنَ سَنَةً وثَلاثَةَ أَشْهُرٍ قَدِمَ عَليهِ جِنُّ نَصِيْبِيْنَ فأسْلَمُوا.

وَلَمَّا بَلَغَ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إحْدَى وَخَمْسِينَ سَنَةً وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ أُسْرِيَ بهِ مِنْ بَيْنِ زَمْزَمَ وَالْمَقَامِ إلى بيتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ أُتِيَ بِالبُرَاقِ، فَرَكِبَهُ وَعُرِجَ بِهِ إلى السَّماءِ، وفُرِضَتِ الصَّلاةُ.

وَلَمَّا بَلَغَ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ثَلاثًا وخَمْسِيْنَ سَنَةً هاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إلى الْمَدِيْنَةِ في يومِ الاثْنَيْنِ لِثَمانٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبيعٍ الأَوَّلِ، ودَخَلَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الاثنينِ، فأقامَ بِها عَشْرَ سِنِيْنَ سَوَاءً، وتُوُفِّيَ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ.

وَفي بَعْضِ هذهِ التَّوارِيْخِ خِلافٌ بينَ أَهلِ النَّقْلِ، ذَكَرْنا مِنْهُ ما حَصَرْنَاهُ في كِتابِنا الْمُسَمَّى بــ "عُيُونِ الأَثَرِ".

 

اضغط على الرابط لقرأة المزيد 

 

 

 

 

 

كان يعقوب عليه السلام يحب ابنه يوسف وبنيامين كثيرًا ويؤثرهما بزيادة المحبة على إخوتهما لما لهما من المحاسن كحسن الخلق وكان ذلك سببًا في حقد إخوتهما عليهما، وسببًا في محنة يوسف التي ابتُلي بها ونال بها الدرجات العلى عند الله.

كان بقية أبناء يعقوب عليه السلام يحسدون يوسف وشقيقه بنيامين على هذه المحبة والخصوصية لهما وهم يعتبرون أنفسهم جماعة أقوياء نافعين له أحق بمحبته قال تعالى: {إذ قالوا ليوسفُ وأخوهُ أحبُّ إلى أبينا مِنَّا ونحنُ عُصبةٌ إنَّ أبانا لفي ضلالٍ مبينٍ} [سورة يوسف] وازداد كره إخوته وحسدهم ليوسف خاصة لمّا علموا بأمر رؤياه، ولذلك تآمروا فيما بينهم على أن يُفرقوا بينه وبين أبيه، وتشاوروا فيما بينهم على قتل يوسف أو إبعاده إلى أرض لا يرجع منها ليخلو لهم وجه أبيهم أي لتتمحض محبته لهم عن شغله بيوسف، وقالوا سنتوب بعد ذلك لنكون من الصالحين، قال الله تعالى حكاية عنهم: {اقتُلوا يوسفَ أوِ اطرحوهُ أرضًا يَخْلُ لكم وجهُ أبيكُم وتكونوا من بعدهِ قومًا صالحينَ} [سورة يوسف].

ولكنّ قائلاً منهم قيل هو أخوه يهوذا وقيل غيره، قال لهم: لا تقتلوا يوسف، وأمرهم أن يلقوه في قعر البئر فيلتقطه بعض المارة من المسافرين فيأخذونه وبذلك يتخلصون منه.

قال الله تبارك وتعالى: {قالَ قائلٌ منهُم لا تقتلوا يوسفَ وألقوهُ في غَيَبَتِ الجُبِّ يلتقطهُ بعضُ السَّيارةِ إن كنتم فاعلينَ} [سورة يوسف] وأخذ عليهم أخوهم يهوذا العهود أنهم لا يقتلونه، فأجمعوا عند ذلك على أن يدخلوا على يعقوب ويكلموه في إرسال يوسف معهم إلى البرية ليلعب معهم ويأكل، لذلك دخلوا على أبيهم وطلبوا منه أن يسمح لهم باصطحاب يوسف إلى الصحراء وتعهدوا له أن يحافظوا عليه: {قالوا يا أبانا ما لكَ لا تَأمَنَّا على يوسف وإنَّا لهُ لناصِحونَ* أرسِلهُ معنا غدًا يَرْتع ويلعب وإنَّا لهُ لحافظنَ} [سورة يوسف].

وكان يعقوب عليه السلام قد خطر له ما يضمره بنوه لأخيهم يوسف، وكان يعزّ عليه أن يذهبوا به لأنه كان يخشى عليه منهم، لذلك أراد أن يثنيهم عن هذا الأمر بقوله: {قالَ إنِّي ليُحزنني أن تذهبوا بهِ وأخافُ أن يأكلهُ الذئبُ وأنتم عنهُ غافلون} [سورة يوسف].

وهو كان يتخوّف على يوسف من عدوانهم أكثر مما يتخوف عليه عدوان الذئب ولكنهم كانوا بارعين في الدهاء لذلك قال تعالى: {قالوا لئن أكلَهُ الذئبُ ونحنُ عُصبةٌ إنَّا إذًا لخاسرونَ} [سورة يوسف] أي لئن أكله الذئب ونحن جماعة كثيرون نكون إذًا عاجزين هالكين.

سببًا في حقد إخوتهما عليهما، وسببًا في محنة يوسف التي ابتُلي بها ونال بها الدرجات العلى عند الله. .... للمزيد أنقر هنا

اختر لغتك